بالعربيةسياسة

الأمازيغيون في بلاد إيشاويّن، مناضلون ولكن…

ڨاسمي فؤاد - مدوّن
ڨاسمي فؤاد – مدوّن

مع تصاعد الوعي بالذّات الأمازيغية وبروز أفكار “جديدة” نسبيّا على ساحة النشاط من أجل الهوية الأمازيغية في بلاد إيشاويّن، وخروجه من بوتقة الفلكرة واللغوية والنخبوية التي عادت إليها بعد سنوات من الرّكود، بفضل تسارع التقنية وتطوّر الإعلام في العشرية الأخيرة، تفطّنت الجهات المسؤولة عن “تسيير” الشأن الآمازيغي، والجهات المسؤولة عن “التحكم في زمام الأمور” ببلاد إيشاويّن، إلى حيلة ستمكّنها في حال انطوائها على الجميع أن تفعل ما كان يجب فعله، من أجل مواصلة إبقاء الحال كما هو عليه في هذه المنطقة التي “يجب” أن تبقى راكدة، نائمة، ومغيّبة تماما من أجل الحفاظ على مصالحهم، ولن يكون ذلك إلّا باحتواء واستعمال الحراك الأمازيغي، الفاشل، في بلاد إيشاويّن، وذلك بالضّبط ما يحصل اليوم.

صحيح بالمرّة أنّه ليس من الموضوعي أو الدقيق أن نصف الحراك الآمازيغي في بلاد إيشاويّن بالفاشل، فلهذا الحراك بعض الإنجازات التي تحسب له كقسم اللغة الآمازيغية في جامعة باتنة، والضغط الذي أدّى بالمحافظة السامية للأمازيغية لإعادة فتح باب “التفاوض” مع إيشاويّن وزيادة عدد المناصب لتعليم اللغة الأمازيغية في ولاية باتنة وغيرها من الانتصارات المعنويّة الصغيرة (في رأيي) التي تحسب له. ولكنَّه، وهذا ما أركز عليه، يوصف بالفشل في رأيي لعجزه عن التّهيكل “مرّة أخرى” خلال العشرية الأخيرة، وهذا يعدّ فشلا قاعديّا.

هذا “الفشل القاعدي” هو بالضّبط ما ارتكزت إليه استراتيجية تعامل “الأجهزة” الرسمية مع الوضع في بلاد إيشاويّن، وهو تماما المركّب المفتاح والباب الخلفي أو مدخل حصان طروادة في عمليّة “احتواء الحراك الأمازيغي” الذي تتزايد الأدلّة بأنّه سيكون أداةً في منظومة جديدة يؤسس لها المتحكّمون في خيوط السياسة والثقافة الدزيرية، لتعويض منظومة “أبناء الحزب الواحد” التي تحكّمت منذ “الاستقلال” في زمام الأمور، والّتي خَلَفت القيّاد والشّواش وشيوخ الزّوايا المخزنيّة الذين استعانت بهم فرنسا لترويض المنطقة، واستعمل قبلها أمثالهم الأتراك، وحاول العرب والرومان والوندال.

مما لا يقبل الجدل أن عدم استقرار بلاد إيشاويّن هو أكبر تهديد لاستقرار “الجمهورية الجزائرية” اليوم، لطبيعتها وطبيعة ساكنتها التي حكم التاريخ بأنّهم أصعب أطياف الشعب الدزيري مراسا، في مواجهة الظلم، على مدى قرون، منذ ما قبل التّاريخ. ولذات الطبيعة التي تميّز المنطقة وساكنتها، مارست المنظومة التي تحكم دزاير منذ الاستقلال، بغرابة، على اختلاف وجوهها، نفس الممارسات واستعملت نفس التقنيات التي استعملها المستعمر الفرنسي، للتحكّم في المنطقة.

فالتعليم الأصليّ الذي لم يحطّ رحاله إلّا في بلاد إيشاويّن وبعده التعريب القسريّ الذي تركّزت جهوده في بلاد إيشاويّن باستغلال وطنيّة إيشاويّن وعاطفتهم الجيّاشة تجاه الدولة التي “أسسوا” وتجاه المستعمر الذي حاربوا، ساهمت في القضاء على وجود اللغات الأجنبية، الوسيلة الأساسية في التعليم. وهو تماما ما فعلت فرنسا التي لم تعر التعليم في بلاد إيشاويّن أي اهتمام عكس ما فعلت في مناطق أخرى. والتدمير الممنهج لكلّ مقوّمات التنمية الاقتصادية من سياحة وفلاحة وصناعة، سواء عبر “منع” إقامة الأقطاب الاقتصادية وتهميش المنطقة من مخططاتها، والقتل الاستباقي لكلّ ما يمكن أن يحييها (من سياحة وآثار وبيئة وطبيعة) لا يختلف أبدا عمّا مارسته فرنسا من “سياسة الأرض المحروقة” تجاه إيشاويّن الذين لم يستكينوا لها يوما.

هذه الظروف التي تعيشها إلى اليوم المنطقةُ يتغاضى عنها، بغرابة، فاعلوا الحراك الآمازيغي ببلاد إيشاويّن لأسباب كثيرة. هذا الحراك الذي ربّما قد يكون عجزَ عن الإحاطة بكلّ جوانب المشكلة أو التصرّف حيالها، لكنّه سيكون مفتاحا جديدا للتحكّم في المنطقة بزوال منظومة حكم الثوّار، التي تتحكم إلى اليوم في الأمور باستعمال الشرعية الثورية.

قد يظنّ البعض أنّي أبالغ أو أدعي الاستشراف، لست أفعل! لكنّ جميع المؤشرات تؤكّد أنّ المنظومة الحاليّة آيلة إلى زوال، ومن الطبيعي بل والملّح أن يتم استبدالها بموجة أخرى ينتظرُ أن تسودَ، هذه الموجة هي الحراك الآمازيغي الذي تنتشر أفكاره وتتوسّع نضالاته، والّذي أحاول أن أدلي بدلوي في أمره، باعتباري أحد متبنّيه، بطريقة أو بأخرى.

إنّ أفكار الحراك الآمازيغي، ومفاهيم الهويّة والوعي بالذّات الأمازيغية والشّاوية، التي بدأت في الانتشار بفضل وسائل الاتصال الحديثة، تشكّل عمودا أساسيا لعملية تكوين نخبة مجتمعيّة جديدة، ترفع لواء المطالبة وتدافع عن حقوق وكيان المنطقة وتنشط من أجل مستقبل أفضل للبلاد والشمال الإفريقي ككلّ. وهو ما يدركه جيّدا المتحكمون في خيوط السياسة في دزاير، وسيعملون على احتوائه بكلّ تأكيد.

المشكل الرئيس هنا، أنّ وضعيّة الحراك الأمازيغي في بلاد إيشاويّن لا تبشّر بخير، فهو محصور في “نضالات” لغويّة (رغم ترسيم اللغة الأمازيغية صوريّا في مناورة التعديل الدستوري الأخير، الذي ينهيها تقنيّا) ونضالات فولكلوريّة مناسباتيّة، غير مهيكلة ولا مؤسسّة، تغفل عن كثير جدّا من جوانب الأزمة التي تعانيها منذ الاستقلال هذه المنطقة. وحتّى “نضالاتهم” هذه يتمّ الاستثمار فيها مؤخّرا بتكريس صراعات جانبيّة من قبيل “مسألة الحرف” التي ستبرز خلال الأسابيع القادمة إلى السطح بين فاعلين “أمازيغيين” في بلاد إيشاويّن، بين جبهتين الأولى “لاتينية” مدعومة من الجهات الرسمية والثانية “تيفيناغية” بعض أطرافها ليسوا إلّا طامعين في بعض من “الكعكة”.

وهذه هي ببساطة “أمازيغية النّظام” في بلاد إيشاويّن، التي يسعى المتحكمون في خيوط “المنظومة” في دزاير، إلى “نشرها” كإجراء احترازي من أجل “حصر” أفكار الحراك الأمازيغي في عيّنة مختارة من “النشطاء” يجعلها تواصل تنفير الشباب الشّاوي منها، ويحاول خلق أقطاب يقرّبها تدريجيّا من دوائر “النظام” ويصنع منها أسطورة نضالات “فعالة”، حتّى تتموضع في الواجهة، كناطق رسمي باسم الأمازيغية وباسم منطقة إيشاويّن .. تلك هي الخطّة.

هذا لا يعني أنّ أيّا من هؤلاء “المناضلين” متآمرٌ مع الجهات المسؤولة عن هذه الخطة، أو عارف مشارك بها، هذا اتّهام لا أملك أن أوجّهه لأي كان، فجميعهم يقدّم طواعيّة كلّ ما يستطيع في سبيل حفظ ونشر ثقافة إيشاويّن ولغتهم ويحاول بنيّة طيبّة، عموما، أن يساهم في ترقيّة الأمازيغية في شمال إفريقيا.

الحقيقة أنّ بلاد إيشاويّن اليوم بحاجة إلى نشطاء حقوقيين، بيئيين، سياسيين، وتنويريين، هي بحاجة إلى فنّانين حقيقيين، إلى شباب واعٍ مواكب للعصر، إلى إشاعة مفاهيم الوعي بالذّات الحقيقية، إلى “ترسيم” الجهوية التي تبنيها في أيّ إطار يخدمها هي أوّلا، وزرع وعي سياسي ناضج في نفوس أبنائها. هي بحاجة إلى آكاديميين ينتجهم مجال الوعي المتولّد عن تراكمات الأفكار التي سينشرها كلّ هؤلاء. هذا هو في رأيي ما يجب حقّا أن يكون بدل ما يواصل “مناضلوا الحراك الأمازيغي في بلاد إيشاويّن” الخوض فيه، من مباحث “هامشيّة” تزيد من تركيز درجة “التخدير” الذي يعانيه الشاوي اليوم، وتقحم الشّباب منهم وتستهلك طاقاتهم في محافل الثقافة السطحية الراقصة الهامشية العاقرة غير القادرة على الإنتاج المدعومة برعاية رسمية.

باسم عابدي

مهتم بالتاريخ بصفة عامة، أطلقت "المكتبة الرقمية الأمازيغية" سنة 2013، وهي مخصصة لتاريخ وثقافة الأمازيغ. وساهمت سنة 2015 في تأسيس "البوابة الثقافية الشاوية"، المعروفة بـ إينوميدن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى