مجتمع

البكالوريا للجميع .. والطموح لمن استطاع !!

لامية رحّال - إينوميدن البوابة الثقافية الشاوية
لامية رحّال

49.79 % هي نسبة النجاح التي سجلتها باكالوريا هذه السنة (2016) بمعنى أن أكثر من نصف المترشحين راسب 51.21 % وهي النسبة التي تستحق فعلا الدراسة و الاهتمام و تعكس الجهود التي يقوم بها قطاع بأكمله، إلى جانب مجتمع ساهم بطريقة أو بأخرى في الوصول إليها .. و أعني بالمجتمع هنا : العائلات ، الأولياء ، و كل فرد له مسؤولية اتجاه تلميذ مازال يفتقد للوعي الكافي، و يحتاج للكثير من التوجيه .

رغم ذلك ، لا بأس بتسليط الضوء على الفئة الناجحة ، لأن ضياعها قد لا يقل عن ضياع و خيبة الراسبين ، الخيبة التي سيصنعونها لاحقا عن سبق إصرار، و سيتذوقون طعمها غالبا في السنوات اللاحقة لهذا النجاح ، عند الدخول في دوامة اسمها ” الجامعة الجزائرية ” بكل ما تحمله من معطيات ،  و الانتماء لقطاع لا يقل هو الآخر معاناة عن قطاع التربية ، قطاع التعليم العالي و البحث العلمي !

ليس هذا ترهيبا، بقدر ما هو وصف لواقع مهيمن يجد الطالب ” الفتي ” نفسه أمام حتمية مواجهته و تحديه لا التأقلم معه ..

بغض النظر عن المعدل الذي تحصلت عليه ، و الذي قد يؤهلك كما قد يحرمك ، و يجعلك من اللحظة الأولى لإعلان النتائج تفكر في الإعادة ، و التي تبقى خيارا مشروعا ، بل ضروريا أمام طالب يملك من الأهداف ما يجعله مستعدا للإعادة في سبيل تخصص يريده.. بعيدا عن الإعادات الهاجسية النرجسية الفارغة من الغايات ، و التي ليست موضوع حديثنا .

بغض النظر عن العلامات المتحصل عليها ، هناك دوافع و منطلقات تجعل الطالب يتوجه لتخصص دون آخر ، و ذلك مرتبط بشخصيته – التي هي في طور التكوين –  بالدرجة الأولى .

نجد من بينها العرف الاجتماعي ، الذي يجعل غالبية “دون مبالغة ” أبناء هذا الوطن يتمنون دراسة تخصص الطب و الصيدلة ، أين يُغرس في اللاوعي ، و منذ نعومة أظافر كل طفل فكرة : ( إبني يخرج طبيب ) بسخرية و تمنّي سرعان ما يتحول إلى جد، بل إلى ضغط يمارسه الأولياء و يزكيه الأبناء دون إدراك !

هناك دافع آخر يتمثل في مدى توفير التخصص لفرصة عمل و راتب ” مرموق ” يجعل من الدراسة صفقة مسبقة بين طالب للعمل و محيط اقتصادي غير متوازن بل مشلول في كثير من الأحيان ، ما يدفعنا للتساؤل : لماذا أختار تخصصا يُراعي و يتأقلم مع محيط اقتصادي هو في الأصل فاشل ؟؟ رغم أهمية الجانب المادي التي لا يمكن إنكارها .

أضف إلى ذلك ما توفره الجامعة الموجودة على مستوى الولاية/ الجهة من تخصصات و التقيد بها، حين لا يُطرح الخروج من الولاية كخيار لملاحقة الهدف المسطر . و كيف تتقيد البنت هنا أكثر من الابن ..

هكذا ظروف ليست سرية ، و تجاوزها لا يحتاج  لوصفات سحرية ، بل كل ما نحتاجه ، هو ترتيب الأولويات  بكفاءة : بين الضمير ، القلب و هذا الواقع المطروح أمامنا  .. هو البحث العميق و الجاد عن مكانة طموحاتنا و ميولاتنا الحقيقية وسط الزخم  الحاصل، و الاستجابة لها بكل استقلالية و بكل ثقة بعيدا عن هذه المؤثرات التي لا شك ستتقاطع مع ما نريد و ستُذلل في سبيل و في خدمة ما نريد.

ستُطرح هنا فكرة ولادة الميولات و الطموحات ، و كيف تكبر للدرجة التي نجعل دراستنا طريقا لعيشها و الوصول إليها .. أعتقد أن الأمر هنا ليس تعجيزيا بل تتحكم فيه مكونات الشخصية لدينا ..

ثم ما تعريفنا للنجاح ؟؟  بين متعة دراسة ما نريد و جحيم ابتلاع ما يمليه العرف و التقاليد .. بين متعة الابداع و الانفجار و العطاء في تخصص نريده .. و بين عذاب الكبت ، التلقين ، التقييد ، التظاهر و النفاق في تخصص نرفضه في أعماقنا ، و نقنع أنفسنا به عن طريق أدوات تجميل اجتماعية للتأقلم من ما هو موجود .

لم نخلق لنكون جميعا أكاديميين ، لم نخلق كلنا لوضع النظريات ، لم نخلق لنكون نسخا مهنية أو علمية متطابقة ، لكننا نشترك جميعا في الطموح نشترك جميعا في هَمّ ما ، ثقيل ، نتقاسم حمله بالتساوي و إزاحته تفرض علينا وضع اعتبار للضمير إلى جانب المتعة .

لست هنا لإعطاء دروس في التنمية البشرية أو لغرس أوهام المثالية ، لكنني أتحدث من منطلق تجربة و مسار دراسي مررت به و مر به الكثيرون من المحيطين بي ، و تستحضرني هنا تجربة رائعة لصديقة تحصلت على شهادة الباكالوريا بتقدير مشرّف في تخصص علمي يِؤهلها مباشرة للتوجه نحو عالم الطب و مشتقاته ، و كيف اختارت تخصص الاقتصاد و تفوقت فيه طوال مسارها و هي تتابع حاليا تكوينا في الدكتوراه في إحدى المدارس العليا . طموحها كان أقوى من العرف الاجتماعي الذي جعل مجال الاقتصاد و التسيير مهربا لليائسين و أصحاب المعدلات الضعيفة ، و خيار من لم يتبق لديهم بديل ،  تفوقت في دفعة شملت وقتها ما يقارب الألفين طالب .. فقط ، لأنها صاحبة طموح .

العلوم الإنسانية ، مجال هُمش كثيرا ، و تراكمت حوله المغالطات ، فقط لأن مجتمعا متخلفا أراد ، فكيف لطالب سليم الفطرة و المنطق أن يرى هذا المجال بنظرة دونية ؟؟ يلغيه و يحتقره اعتقادا منه أن ذلك عين النباهة والوعي ؟؟  في الحقيقة احتقار العلوم الإنسانية و الاجتماعية هو احتقار للإنسان و المجتمع .

العلوم التقنية (الطبية خاصة) مجال لا يقل أهمية ، لكن قيمتها تدهورت هي الأخرى ، حين أصبح الراغبون به عُرفا و فخفخة و راتبا و مظهرا ، أكثر بكثير من الراغبين به قناعة و طموحا و ضميرا !! و تستحضرني هنا أيضا عائلة حرصت فيها الأم على أن يدرس كل أبنائها ” المتفوقين ” الطب ، و لا تترد في التفاخر بذلك في كل مناسبة ، و تعتقد الأم أنها قامت بدور “مثالي” في توجيه أبنائها و جعلهم نسخا جامدة متشابهة ، و أن نخبة المجتمع  الحقيقية و أبناؤه الناجحين يجب أن يتخصصوا في  الطب .

إذن، دور المقربين و أصحاب الخبرة و المرشدين ليس إملاء التخصص على الطالب ، أو تصوير تخصص معين في نظره على أنه مثالي !!  من الغباء و من الإجحاف أن يقوم الموجّه بدور ترتيب التخصصات حسب ” الأهمية ” و تلقين الطالب أبجديات تقديس تخصص و احتقار آخر .. و كم نحن متفوقون في هذا !!

دور الموجه هنا ، هو التركيز على أهمية  ميولات الطالب التي قد لا تكون ناضجة بما يكفي لاختيار التخصص المناسب لها ، دوره هو تثمين هذه الميولات و إزاحة الغبار عنها لترى النور ، لتكون واضحة بما يكفي لتشجيع صاحبها على الخوض فيها ، دور الموجه هو شرح محتوى التخصصات محل الاختيار و تفاصيلها و الطريق الذي تؤدي إليه .. دور الموجه هو تبسيط محتوى البدائل أمام ” طالب ما قبل الجامعة “ .، دور الموجه هو توعية هذا الطالب بالإحداثيات المجتمعية لكل تخصص ، بالدور – الاجتماعي –  المناسب له من خلال ميوله و التخصص الذي شد اهتمامه .

لنتساءل بجد ، و لنتأمل قليلا : هل يوجد فعلا تخصص تافه أو غير مهم ؟؟ بعيدا عن المؤثرات الاجتماعية المغلوطة التي جعلتنا عبيدا لها اعتقاد منا أننا رواد في التأقلم ” الواقعي ” مع الظروف !!

في مدينتك مثلا ستجد الكثير من الأفكار الخام التي تصلح كمكونات لصناعة هدفك ، الواقع إن نحن فعلا أردنا التعامل معه ، يجب أن تكون مشكلاته الكثيرة منطلقا و منبعا لوضع هدف و ليس التعامل معه كسيّد علينا الخضوع له بكل ما يفرزه من تناقضات .. مدينتك المنكوبة اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا و عمرانيا !!

مجتمعك المشلول فكريا و حضاريا لا يجب أن ترضخ لمعاييره البالية ، بقدر ما يجب أن تتخلص منها و تطمح عن طريق ما تدرس إلى اقتلاعها للأبد .

للأولياء، للمرشدين، للطلبة ..

لا لاغتيال الطموح و الضمير لمجرد  راتب و أعراف مجتمع !!

باسم عابدي

مهتم بالتاريخ بصفة عامة، أطلقت "المكتبة الرقمية الأمازيغية" سنة 2013، وهي مخصصة لتاريخ وثقافة الأمازيغ. وساهمت سنة 2015 في تأسيس "البوابة الثقافية الشاوية"، المعروفة بـ إينوميدن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى