تاريخ

الزراعة ظهرت في شمال افريقيا قبل مجيء الفينيقيين

رددنا في مقالنا السابق على ادعاء عثمان سعدي القائل أن ” الفينيقيين أخرجوا الأمازيغ من العصر الحجري و ادخلوهم التاريخ” . سنقوم في هذا المقال بالرد على ادعاء أن الفينقيين علّموا الأمازيغ الزراعة  .
تشير المصادر التاريخية و نتائج علم الآثار بالاضافة الى المعطيات الألسُنية (linguistique)  على أن تعاطي الامازيغ للزراعة قد سبق مجيء البحّارة الفينيقيين و ان لا فضل لهؤلاء في ظهور الزراعة في شمال افريقيا  .
و من سخرية القدر أن تكون اهم الآثار المادية للفلاحة البروتوتاريخية في شمال افريقيا تم اكتشافها في دوّار “تازبنت” ولاية تبسة مسقط رأس العروبي عثمان سعدي . سوف نتحدّث عنها بالتفصيل لاحقا في المقال .

المعطيات التاريخية

يقول ستيفان قزال (Stéphane Gsell) : ” لم ينتظر السكان الأهالي السيطرة القرطاجية ليتعاطوا الفلاحة , فحوالي سنة 500 ق.م ذكر هيكاتي  (Hécatée) الليبيين الذين يزرعون القمح و يأكلونه انطلاقا من مدينة اسمها ميقاسا (Mégasa) التي لا يُعرف مكانها الآن . و بعده بنحو نصف قرن نسب هيرودوت (Hérodote )  الى (الليبيين الفلاحين) سكان الدور , المنطقة الواقعة غرب نهر تريتون (Triton) و بحيرة تريتونيس  (Tritonis), و ذلك ما يتطابق مع شرق القطر التونسي . و في هذا العهد , لم يكن قد مر إلا قليل على سيطرة قرطاجة على منطقة توسعها بإفريقيا ” [1].
و يقول إميل لاوست (Emile Laoust)  “تشير المصادر التاريخية الى ان الليبيين كانوا يفلحون الارض عام 500 قبل الميلاد . من جهة اخرى لا يوجد شك اليوم على أن البربر لم ينتظروا مجيء الرومان أو البحّارة الفينيقيين لكي يتعاطوا الفلاحة” [2].
و يأكد غابريال كامبس ما ذهب اليه زملائه في كون الزراعة في شمال افريقيا سبقت السيطرة الفينيقية و الرومانية و يكتب : “اذا كان المزارعون الليبيون قد تمركزوا في الواجهة الشرقية للبلاد التونسية منذ ما قبل القرن الخامس ق. م  فمن حقّنا التأكيد أنّ القرطاجيين لم يكن لهم أي دور في تكوين تلك المجتمعات من الفلّاحين لأن الإقليم البوني لم يكن بعد قد توسّع الى تلك الجهة ” [3] .
و يكذّب كامبس بعض الآراء التي تنسب زراعة الاشجار المثمرة الى الفينيقيين بدون تقديم دلائل قائلا : “أشار هيرودوت أيضا الى زراعة الكروم و الزيتون في جزر قرقنة و قد نُسبت زراعة هذه الأشجار للفينيقيين دون تقديم دليل إثبات . و يتحدث الجغرافيون في مرّات عديدة عن الكروم المغروسة من طرف الليبيين , و جاء في رحلة سيلاكس ذكر للكروم التي يمتلكها الإثيوبيون المجاورون لجزيرة قرنة , كما ذكر سترابون كروم المغرب العملاقة” [4] .

 المعطيات الألسُنية أو اللغوية

يقول غابريال كامبس ان المعطيات اللغوية تثبت ان معظم المنتجات الحقلية و البستانية تحمل اسماء امازيغية خالصة : “فيما يتعلق بالزراعات الحقلية لم يكن قدماء البربر في حاجة الى أي تأثير بوني . فأنماط الزراعة البسيطة و المفردات الخصوصية هي كلّها ليبية سواء أسماء الحبوب أو أغلب المنتجات الحقلية و البستانية الأخرى , و هو ما يدعو الى اعتبار الفلاحة البربرية عمل و نشاط قديم جدّا سابق لتأثير قرطاج ” [5].
لاحظ المختصون ان اسماء الأدوات الفلاحية البسيطة بالأمازيغية مشتركة في جميع مناطق شمال افريقيا  كما يقول غابريال كامبس :
” يستعمل المزارعون الشمال افريقيون في ما يتعلق بالبستنة المعول  (pioche)و اسمه لدى جميع الناطقين بالربرية آقلزيم  (Agelzim)في صيغة المذكّر أو تاقلزيمت في صيغة التأنيث , أما المجرفة  (houe)و باقي أنواع المعازق اليدوية(binettes)  فلا طائل في البحث عن اصولها , هذه الأدوات ظهرت لحاجة العمل الفلاحي اليها , و قد رأينا أن عددا من الرسومات الصخرية و الأدوات النيوليثية تشهد على قدم استعمالها في بلاد البربر” [6].
و تم اكتشاف صور للمحراث البربري في نقوش صخرية عديدة بالاضافة الى سكة محراث بجثوة جنائزية (تيمولوسTumulus )  قرب ضريح إيمدغاسن [7]. و تمت دراسة هذا المحراث من طرف عدة مختصين (الريف[8] Haudricourt (G.) et Delamare -, الأوراس[9] R. Maciver/Wilkin)   لعلاقته الوثيقة بالزراعة , فكانت نتائج هذه الدراسات أن المحراث البربري أصيل بشمال افريقيا و لا علاقة له بالمحراث الروماني أو القرطاجي أو المصري .
و يكتب كامبس بهذا الصدد : “يمثل المحراث البربري أداة بدائية عبارة عن معول خشبي صلب و مثبّت في التربة و هو مختلف عن المحراث القديم المصري و الشرقي الذي له مقبضان , كما يتميّز عن المحراث الروماني و لا علاقة له بالمحراث القرطاجي , و يبدو أنه ظهر في المتوسط الغربي منذ عصر البرونز , و لا يستبعد أن يكون من أصل محلّي و تدعم هذه الفكرة بساطته و كذا المعطيات اللغوية التي تسند هذا الطرح ” [10] .
و قام  إيميل لاوست بدراسة لغوية قيّمة للمحراث في كامل شمال افريقيا استنتج من خلالها ان جميع المصطلحات المتعلقة بالمحراث و مكوناته  أمازيغية خالصة (أنظر : Laoust (E.), Le nom de la charrue et de ses accessoires chez les Berbères, Archiv. Berb, 1918. ) .

و هو ما يؤكّده بدوره غابريال كامبس “محراث شمال افريقيا البسيط كان محل دراسات عديدة سمحت بتأكيد أنّ قدماء البربر لم يأخذوا هذه الأداة عن الفينيقيين و الدليل القطعي نجده في المعطيات اللغوية فعديد الأسماء (المطابقة احتمالا لأدوات بناء مختلفة) التي تُطلق على الأجزاء المكوّنة للمحراث كلّها بربرية “[11] .

المعطيات الأثرية
أما بالنسبة للمعطيات الأثرية فهي تثبت وجود فلاحة بروبوتاريخية سابقة للعهد القرطاجي كما يقول كامبس :
“انتظمت الفلاحة في إفريقيا الشمالية ما بين نهاية النيوليثي و الفترة البونية , وتُظهر لنا الوثائق الأثرية أن السكان القفصيين ثم النيوليثيين قد مارسوا القطف  دون أن يقوم الدليل بعد على أنهم زاولوا فعلا النشاط الفلاحي و لكن وثائق أخرى من ذات النوع تنمّ عن وجود فلاحة بروتوتاريخية لا يعود الفضل فيها لقرطاج البتّة “[12] .
من أهم هذه الآثار المادية للفلاحة البروتوتاريخية  بقايا منشأة هيدروليكية تم اكتشافها بتازبنت (مسقط رأس عثمان سعدي) و التي يصفها غابريال كامبس قائلا :
“تركت الفلاحة البروتوتاريخية في بلاد البربر آثار مادية و كنا قد أشرنا الى الرقعة رباعية الشكل في تازبنت …. في عام 1946 كان مهندسو مصلحة الخرائط قد شدّ  انتباههم شبكة من خطوط ذات ملمح هندسي كشفت عنها الصور لدوّار تازبنت – على بعد كيلومترات جنوب غربي تبسة- من قمم جبل بوزيان الى سهل الشريعة و هنشير مدكيس بحيث يظهر في سفح الجبل رقعة مقسّمة على قطع رباعية ضلع كل منها ما بين 20 الى 50 م , و هذه الرقعة ليست بالدقّة الهندسية التي تميّز الكنترة  (centuriation ) بل هي متكيّفة مع الواقع الطوبوغرافي للمكان و منسجمة معه….. هذه الأحواض المحاطة بجدران هي حقول و جدرانها هذه لا تكاد تعلو السطح الا ببضعة سنتمترات لا غير … نعتقد ان هذه التهيئة كانت لغرض الانتفاع بمياه الأمطار في السقي بحيث تساعد الجدران المذكورة في احتفاظ كل حوض بكمية كافية من الماء أو جعل سيول الأمطار بطيء الجريان  كما تقوم تلك الجدران بحماية تربة المساحة الزراعية بتثبيتها على الطبقة الصخرية الأم ” .

و يرى غابريال كامبس ان فلاحة نيوليثية في شمال افريقيا ممكنة جدا حتى و ان لم يدعمها دليل أثري بسبب قلة الحفريات أما الفلاحة البروتوتاريخية فهي مؤكدة بدلائل أثرية عديدة و يكتب  “أملي أن أبيّن أنّه اذا لم يقم الدليل على وجود فلاحة خلال النيوليثي فإنها كانت موجودة بكل تأكيد لدي ليبيي الفترة البروتوتاريخية . و اختصار هذه الفلاحة في الحبوب و الزراعات الحقلية يبدو أنه غير متوافق مع معطيات الألسنية و علم الآثار, و في الأخير نسجّل أن زراعة المدرّجات و الزراعة في الواحات وُجِدت قبل الفينيقيين و خارج أي تأثير من قِبلهم ”  [13].

يوغرطا حنّاشي

[1] تاريخ شمال افريقيا الجزء الرابع صفحة 13  .
Histoire ancienne de l’Afrique du Nord / Stéphane Gsell

[2] Emile Laoust . « Mots et choses berbères p. 301 »

[3] “في اصول بلاد البربر , ماسينيسا أو بدايات التاريخ” . ترجمة و تحقيق العربي عقّون الصفحة 64

[4] نفس المصدر السابق الصفحة 63

[5] نفس المصدر السابق الصفحة 112

[6] نفس المصدر السابق الصفحة 107

[7] Brunon, Mémoire sur les fouilles exécutées au Medracen, Mausolée des rois de Numidie,

Rec. Des notices et Mém. De la Soc. Archéol. De Constantine, t, XVI, 1873-1874, pp. 303-350

[8] Haudricourt (G.) et Delamare (Jean-Bruhnes), l’Homme et la : charrue à travers le monde, Paris 1955

[9] Randall-Maciver and A. Wilkin, Libyan notes. London, 1901.

[10]  “في اصول بلاد البربر , ماسينيسا أو بدايات التاريخ”110

[11] نفس المصدر السابق

[12] نفس المصدر السابق الصفحة 93

[13] نفس المصدر السابق 118

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى