الفلسفة الأمازيغية (2) : حياة وأفكار الفيلسوف النوميدي آفولاي نمداوروش – الجزء الأول

كما قد وعدناكم – ووعد الحر (الأمازيغي) دين عليه، كما يقال – بأنه كما جاء في المقالة الأولى من هذه السلسلة من المقالات والتي كانت تحت عنوان:”الفلسفة الأمازيغية (01) : عن الفكر والتراث الفلسفي الأمازيغيين“، نقوم مرة كل أسبوع، بنشر مقالة من سلسلة مقالات عن الفلسفة الأمازيغية، تتضمن التأريخ لها والتعريف بفلاسفتها بتقديم “سيراتهم” و/أو سيرهم، وأفكارهم خاصة الفلسفية والمجدة منها، متخللة بمقالات أخر، تتضمن الحديث عن “الأساطير” الأمازيغية وعلاقتها بالأساطير اليونانية/الإغريقية والفلسفة، منها التي عن “ديونيزوس” (Dionysos) الإله الأمازيغي الذي تمت “ينينته” (من كلمة اليونان) أو “أغرقته” (من كلمة إغريق (Grecs))، حيث أن أحد الفلاسفة الكبار المعاصرين، الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه (F. Nietzche) ، اعتبر نفسه، في فلسفته وبها، آخر الديونيزوسيين (Dionysossiens)، مقابل وضد الأبولونيين (Apolloniens) وفلسفتهم، أتباع الإله اليوناني/الإغريقي “أبولو” (Apollo) الكثر والمتغلبين عبر التاريخ الفكري والفلسفي.

وأنه سوف نختم سلسلة تلك المقالات كلها، بالإجابة عن الإشكاليات المحورية لها، متمثلة في:

ما مفهوم الفلسفة الأمازيغية وما محتواها؟ وما هي بنية العقل الأمازيغي عبر التاريخ؟ وما علاقته بالفلسفة الأمازيغية وبنا وبعصرنا؟


أفولاي (أبوليوس) المدواروشي

هذه المرة، كما أعلمناكم مسبقا، مقالتنا هذه، هي حول أبوليوس المداوري كفيلسوف، لا فقط كأديب مشهور كتب أول رواية في تاريخ البشرية بعنوان “الحمار الذهبي” أو عنوان “التحولات” (Métamorphoses) كما هي مترجمة عند الغرب. وقد قام الباحث الأديب الجزائري العظيم أبو العيد دودو رحمة الله عليه، مشكورا ومحترما لذلك، بترجمتها إلى اللغة العربية تحت العنوان: “الحمار الذهبي”.

وأولا قبل أي شيء آخر، حذقا واحتراما ونبلا (أمازيغيا)، يجدر بنا في هذه المقالة الثانية من السلسلة، أن نعتذر ونطلب العفو من القراء الأفاضل والمهتمين، عن هذا التأخير الكبير في نشر هذه المقالة، بحيث لم نحترم وعدنا كما قلنا (“كل أسبوع”). ذلك نذرا، راجع، لا إلى تغافلنا وعدم وفائنا والتزامنا كطبع فينا، أو أشياء سلبية أخرى ممكنة من مثل احتقار قرائنا أو عملنا، وإنما ذلك لم يكن أولا إلا عن احترام للقراء والمهتمين من حيث رغبتنا في أن تكون مقالاتنا كلها من مستوى أفق انتظارهم واهتمامهم، علاوة على أننا في مقالتنا هذه قد عانينا الكثير من أجل ذلك ومن أجل تلخيص مضمونها المكثف إلى ما هي عليه، باعتبار أنه لو ماشينا رغبتنا وفق أصول البحث وعمق وجدية العمل التي نرغبها، لا أصبحت هذه المقالة بحثا أكاديميا حول الفيلسوف يصلح مذكرة ماجستير على الأقل، عند إنهائها على ذلك القصد المرغوب والمبتغى. ذلك رغم المشاغل الحياتية المتعددة والتي كثرت علينا والتهمت وقتنا في هذه الآونة الأخيرة، ولم يكن لنا بد وسبيل لدفعنا إلا وحدنا وبأنفسنا.

وإنه في هذه المقالة الطويلة – بعض الشيء- (في جزأين)، قد قدمنا فقط الخطوط العريضة حول الفيلسوف الموسوعي، وإن شاء الله ستكون أساسا ومادة أولية لكتاب أوسع ومفصل حول أبوليوس (125م- 180م) ضمن سلسة كتب مختصرة متوسطة الحجم تحت عنوان “سلسلة الفلاسفة الأمازيغيين”.

وقد قسمنا المقالة هذه حول أبوليوس كفيلسوف إلى جزأين. في هذا الجزء الأول نذكر نسب وطفولة وملامح شخصية أبوليوس، التعريف بمداورش مسقط رأس أبوليوس، لمحة عامة عن التعليم في شمال إفريقيا القديم- ثامزغا، وعصر الفيلسوف أبوليوس ومميزاته مع الحياة الفكرية والعلمية لأبوليوس أما في الجزء الثاني فسنذكر فلسفته وأفكاره، وأرائه ومؤلفاته، الذين تأثر بهم وكيف، الذين أثر فيهم، وأثره الفلسفي عبر التاريخ، إضافة إلى دارسيه والدراسات حوله …الخ.

نسب، طفولة وملامح شخصية أبوليوس المداوري:

أبوليوس المداوري (Apulée de Madaure) يدعى لوسيوس ابوليوس ثيزوس (Lucius Apeleius Theseusلوشيوس أبوليوس أو لوسيوس أبوليوس أو لوكيوس أبوليوس و بالأمازيغيةأفولاي”. كان يسمي نفسه في مخطوطاته أحيانا “أبوليوس المادوري الأفلاطوني ” والفيلسوف الأفلاطوني” أحيانا أخرى.

ولد سنة 125 م في مدورا لذلك فإن في اسمه نسبة إلى مدينة مداورش بـ سوق أهراس حاليا في الجزائر الجمهورية، وتوفى بالتقريب سنة 180م بعدما قد انعزل عن الحياة العامة منذ 164م، ولا تعرف نهايته على وجه التحديد.

هو أمازيغي إفريقي الأصل والمولد، تطغى على ثقافته العالمة الثقافة الهيلينية (Culture Hellénique)، روماني الجنسية. من عائلة أمازيغية- رومانية غنية وذات نفوذ في مدينته الأصلية مادورا. أبوه كان أحد الحاكمين الإثنين للمدينة (duumvir). وقد ورث أبوليوس هو وأخوه عن أبيهما ثروة مقدرة بمليونيسيستر” (sesterces)، العملة الرومانية آنذاك.

كان شغوفا بمعرفة كل شيء وكان ولوعا بالسفر. وشهد له مؤرخو العهد القديم أنه كان يملك موهبة عظيمة وذكاءا حادا وخارقا. فهو رجل فكر موسوعي، فهو أشهر المناطقة (المنطقيين) الشمال إفريقيين-الأمازيغ على الإطلاق، فيلسوف وعالم فلك، ورياضي، وفيزيائي، وطبيب وعالم تشريح وأديب ومحامي وخطيب مفوه. كان مولعا على الخصوص بالعلوم التجريبية غير أن أغلب أعماله في هذا الميدان قد ضاع. إلا أنه رغم كل أعماله فإنه لم يشتهر إلا بكتابه في الأدب المنشور تحت عنوان: “التحولات” (Métamorphoses)([1]). وكان أول من عاين شهرته القديس أوغسطين بحيث قال عنه:

” عندنا نحن الأفارقة، أبوليوس هو الأكثر شعبية”([2]).

إلا أنه رغم الحيرة بأي لقب يتم وصف أبوليوس فإنه من كل الألقاب كان نفسه يفضل لقب “فيلسوف”، بهذا اللقب يصف نفسه في كتابه “الدفاع” (Apologia)([3]).

لم يكن يعرف في البداية سوى لغته الأم وهي اللغة الأمازيغية وثقافتها التي تربى بها وكبر عليها، غير أنه تعلم اللغة اليونانية واللغة اللاتينية في المدرسة كما نتعلم نحن الآن اللغة العربية والفرنسية الفصحيين في المدرسة. وكان يتحدثهما بإتقان وبلكنة أمازيغية (إفريقية)([4]). ذلك بالإضافة إلى تبحره في اللغة البونيقية وثقافتها. روي عنه أنه قال:

“إني لأنهض بالأمر كله على السواء باللسان الإغريقي أو اللاتيني بنفس الإقبال والوثوق وبنفس الجد وبنفس الطراز والأسلوب

درس في مداورش ثم انتقل لإتمام دراسته إلى جامعة قرطاج حيث كانت أهم جامعة آنذاك في شمال إفريقيا القديم- ثمازغا، فقد احتوت جامعة قرطاج على مكتبة ووثائق تعادل مكتبة الإسكندرية القديمة. وبعدها تنقل إلى كعبة العلم لأغلب طلبة شمال إفريقيا القديم- ثمازغا آنذاك وهي أثينا، ثم واصل إلى روما التي حتى عمق فيها دراساته أفل راجعا إلى مادورا (مداوش) لأن مدينة روما لم تعجبه، وكان دائما يحس فيها بأنه أجنبي كما قال. وبعد مداورش انتقل إلى قرطاج أين بدأ يبني شهرته.

كان يفتخر ويعتز بمدينته وموطنه وأصله، حيث كان يقول عن نفسه أنه نصف نوميدي([5]) ونصف جيتولي([6]) ([7]). كما كان يقول أيضا:

 “أنا لا أخجل من وطني، لقد كنا أقوياء مع سيفاكس، ولكن، لما انهزم هذا الأخير، سلم الرومان مدينتنا إلى ماسينيسا، والآن نحن نمثل تجمعا سكانيا رائعا”([8]).

كما كان أبوليوس يقارن نفسه بسقراط، حيث كان يعرف الكثير وكان يستشهد من الكتب عن ظهر قلب دون الرجوع إليها. فمما قال:

“أمبيدوقل ينظم القصائد، وأفلاطون يصنّف المحاورات، وسقراط يضع الأناشيد، وأبيكاروس يصنّف مشاهد التمثيل الإيمائي، وكسينوفون يؤلف القصص التاريخية، وغراتس يصنع الأهاجي، أما صاحبكم أبوليوس، فهو يجمع كل هذه الأصناف ويتعامل مع ربات الفنون التسع”([9]).

وقد أعجب كثيرا بالديانات الشرقية بما فيها اليونانية منها وكان يميل للتصوف ويكره المسيحية([10])، حيث أن شهرته بلغت الآفاق خلال القرون القديمة والوسطى إلا عند المسيحيين في القرنين الرابع والخامس ميلادي باعتباره عدوا للمسيحية وساحرا في نظر المثقفين المسيحيين لتلك الفترة.

ويعتبر المؤرخ الفرنسي المختص بول مونصو (P. Monceaux) (1859-1941)([11]) شخصية أبوليوس نموذجا حيا لشخصية المثقف الشمال إفريقي (الأمازيغي)، لكن الدارسين لم يهتموا بمؤلفاته، أكانت الأدبية، العلمية،  أو الفلسفية و المنطقية، إلا ابتداءا من القرن التاسع عشر (القرن 19 م) من طرف المثقفين الغربيين. أما “المثقفون” الشمال إفريقيون المعاصرون فلم يهتموا به بتاتا إلا البعض متأخرين ومجترين كالعادة لما اهتم به الغربيون. ذلك أن كل ما يتعلق بتاريخ شمال إفريقيا القديم الأمازيغي ممنوع على التفكير في شمال إفريقيا الحديث والمعاصر.

مداورش (Madaura) مسقط رأس أبوليوس:

مداورش مدينة أمازيغية كانت تنتمي إلى مملكة الملك الأمازيغي الماسيسيلي([12]) الأقليذ([13]) سيفاكس (القرن 3 ق.م) ثم إلى مملكة نوميديا([14]) الملك الأمازيغي الماسيلي([15]) الموحد لثمازغا (الماسيل والماسيسيل)، ماسينيسا (القرن 2 ق.م) مع نهاية الحرب البونيقية (Puniques) الثانية (218-201 ق.م)([16])، وبعدها أصبحت مستوطنة رومانية حوالي نهاية القرن الأول (1 م)([17]).

كانت مشهورة بمدارسها وعلمائها وأساقفتها. فهي مسقط رأس المفكر الموسوعي الفيلسوف الأمازيغي المشهور أبوليوس المداوري، كما هي مسقط رأس مفكرين وعلماء أمازيغيين كبار آخرين مثل النحويين اللغويين ماكسيموس (Maximus) ونونيوس (Nonius). وقد درس بها أيضا القديس أوغسطين.

لمحة عامة عن النظام التعليمي في ثامزغا في العصور القديمة:

قام الأمازيغ القدامى، بتقليد اليونان والرومان في نظام التعليم الذي تبنوه. ففي البداية كانت مواد التدريس تنحصر عند الأمازيغ كما عند الرومان في الأدب اليوناني ونحو اللغة اليونانية والريطوريقا والسفسطة والرسم والنحت والموسيقى والرقص، كدروس خصوصية في المنازل أو جماعية في الأمكنة العامة باللغة اليونانية. ثم ظهرت اللغة اللاتينية في القرن 1م بظهور كتاب كبار مثل سيسيرون أو شيشرون (Ciciron) (106-43 ق.م) وفيرجيل (Virgile)(70-19 ق.م)، مع بقاء الفلسفة اليونانية في مضمونها ولغة تدريسها مسيطرة على الساحة الفلسفية الرومانية من خلال المدارس الفلسفية المتمثلة في الفيثاغورثية والأبيقورية والرواقية والأفلاطونية المحدثة (من القرن 3 حتى القرن 5 ق.م)، كما بقيت المواد العلمية المدروسة في التعليم العالي تدرس باللغة اليونانية مثل الطب حتى القرن 5 م، وما كان يدرس باللاتينية لم يكن إلا ترجمة لنصوص يونانية الأصل.

التعليم الابتدائي:

وباعتبار أن منطقة قورينا([18]) (Cyréne([19])) (في ليبيا الحالية) كانت مستعمرة يونانية منذ القرن 7 ق.م، فإن التعليم الابتدائي ظهر في شمال إفريقيا – ثمازغا وروما في نفس الوقت خلال القرن 6 ق.م، يقوم به معلم ابتدائي (Primus Magister) متخصص ويدوم لمدة خمس سنوات يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة والحساب([20]). وقد كان فكر، أدب ونصوص الموسوعي الفيلسوف والأديب الأمازيغي ابوليوس المداوري، من أهم الدروس المقررة آنذاك في المنهج الدراسي الثانوي في العهد الروماني، مع نصوص كل من الشاعر فرجيل والكاتب سيسيرون، إضافة إلى نصوص هوميروس (Homère) وهيزيود (Hésiode) (القرن 8 ق.م- القرن 7 ق.م).

التعليم الثانوي:

أما التعليم الثانوي فلم يظهر عند الرومان إلا في القرن 3 ق.م حيث كانت في هذه الفترة الثقافة غنية جدا ومزدهرة في “قورينا” (Cyrénaïque) بشمال إفريقيا- ثامزغا، بتبادل ثقافي في أزهى عصوره مع أثينا ومع الإسكندرية. فلم يأخذ التعليم الثانوي شكله النهائي إلا في أواخر القرن 1 ق.م. وكان يدرس بالثانوي أستاذ نحوي، وتستغرق مدة الدراسة فيه سبع سنوات يتعلم فيها الطالب بالتلقين النصوص الشعرية والنثرية الكلاسيكية، باللغتين اللاتينية واليونانية، حيث يفسر الأستاذ في نفس الوقت الدرس ويعطي درسا في النحو، ويجبر التلميذ على حفظ الدرس وإعادته أمام الأستاذ. كما يقوم الأستاذ النحوي أيضا بالتلقين لبعض المبادئ في العلوم العقلية من حساب وهندسة وموسيقى وعلم الفلك، ثم يضيف مادتي المسرح والفيلولوجيا. وابتداءا من القرن 1 ق.م، أضاف الرواقيون مادة تقنية أخرى موضوعها الدراسات المنهجية لعناصر اللغة أي التحليل المنطقي لبنية اللغة([21]).

التعليم العالي:

ولإستفادة قورينا من الثقافة اليونانية، فقد ظهر فيها التعليم العالي في شمال إفريقيا- ثمازغا قبل ظهوره عند الرومان في القرن 1 ق.م. وقد سيطرت على هذا النظام التعليمي آنذاك مادة الريطوريقا وباللغة اليونانية في روما وفي شمال إفريقيا- ثمازغا رغم ظهور مدرسة ريطوريقية رومانية. بحيث أن مواد التدريس كانت تشمل على مواد خطابية أهمها الريطوريقا نفسها، وعلى مواد فلسفية موزعة على ثلاث تخصصات هي الأخلاق، الطب، والمنطق، إضافة إلى مادتي الجغرافيا والتاريخ. لكن التعليم العالي القديم كان بالنسبة لطلبة شمال إفريقيا- ثامزغا يعادل فقط الريطوريقا([22]). فقد كانت الريطوريقا تمارس في المسائل القضائية والسياسية والبيانية الأدبية، يقدم فيها الأستاذ الجامعي أولا الدروس النظرية حسب ما ورد في مؤلفات أرسطو وسيسيرون ثم يقوم بعرض نماذج خطابية تنسب لكبار الكتاب، ليتمرن في الأخير الطالب على التطبيق في المرافعات القضائية أو في الخطابات والمواقف السياسية والبيانية. وكان يقوم بالتدريس في هذا النظام للتعليم العالي الأستاذ الريطوريقي (أو الخطيب).

الفلسفة والتعليم العالي:

كانت الفلسفة في التعليم العالي آنذاك تدرس داخل مدارس في ما يعادل الزوايا والطرق الصوفية في شمال إفريقيا- ثمازغا في فترة القرون الوسطى (الغربية)([23])، أو في شكل دروس حرة من أساتذة مستقلين مستقرين أو متجولين([24]).

وكان طالب الفلسفة يدرس باللغة اليونانية، ويبدأ بدراسة مسائل عامة حول تاريخ الفلسفة، ثم يتفرغ بعد ذلك لدراسة فلسفة المدرسة (أو الزاوية أوالطريقة) التي ينتمي إليها. وكان المقرر الدراسي في الغالب يحتوي على نماذج في مبادئ المعرفة من المنطق، وحول العالم من الجغرافيا الفيزيائية والفيزياء، ونموذج من علم الأخلاق. وهو تقسيم عرف منذ أول التلاميذ لأفلاطون، عند اليونان، باقيا حتى نهاية العصر القديم.

عصر الموسوعي الفيلسوف الأديب الأمازيغي ابوليوس المداوري (القرن 2 م):

قام المؤرخ المختص الفرنسي بول مونصو (P. Monceaux) في نهاية القرن التاسع عشر بدراسة للحركة الأدبية والفكرية بشمال إفريقيا القديم – تمازغا. وقام بتقسيم العصور الأدبية والفكرية في شمال إفريقيا القديم- ثامازغا، إلى ثمانية عصور هي العصر البونيقي (Punique)، العصر الإغريقي (Grec)، العصر اللاتيني (Latin) مرحلة الأصول، العصر ابوليوس عصر ازدهار اللاتينية، عصر الأباطرة الأفارقة (Empereurs Africains)، عصر القديس أغسطين، العصر الوندالي (Vandale)، والعصر البيزنطي (Byzantin).

وعصر الفيلسوف الأمازيغي أبوليوس هو عصر ازدهار الكتابة باللاتينية بين الأمازيغ القدامى وبداية انسحاب البونيقية واليونانية من الساحة الثقافية الأمازيغية بالتدريج. وفي هذا العصر ظهر الأدب (Littératures) الأمازيغي اللاتيفوني (Latiphone) المتميز تماما عن الأدب الروماني([25]).

وينتمي أبوليوس في ذلك العصر إلى فترة أدبية له سميت بالفترة السفسطائية الثانية (117م-180م)، كانت تمتاز بإحياء الاهتمام بالريطوريقا والفلسفة بصفة عامة، وبالتنقل بين المراكز العلمية العالمية آذاك (أثينا، روما، قرطاجة، الإسكندرية، …الخ.) وكثر فيها الإنتاج الفكري والاختلافات الثقافية بحكم اتساع الإمبراطورية الرومانية وتعدد شعوبها. كما كثرت في هذه الفترة الكتب المدرسية والتعاليق والشروح والملخصات([26]).

من أشهر كتاب هذا العصر علاوة على الموسوعي الفيلسوف الأمازيغي أبوليوس، نذكر النحوي اللغوي الأمازيغي أبولينير القرطاجي (Apollinaire de Carthage) والريطوريقي الأمازيغي فرونطو السيرتي (Fronton de Cirta) والفيلسوف الأمازيغي تيرتوليانوس القرطاجي (Tertullien de Carthage)، وغيرهم.

الحياة الفكرية والعلمية لأبوليوس وعصره:

درس الفيلسوف الأمازيغي أبوليوس المداوري في جامعة قرطاج (القديمة) بعد إعادة بنائها بعد هدمها من طرف الرومان وكانت تنافس جامعتي الإسكندرية وروما.

وكان سكان شمال إفريقيا القديم- ثمازغا يدرسون بجامعة قرطاج القديمة كل الفنون الثقافية المعروفة آنذاك من هندسة ونحت ورسم وصناعة الخزف والمسرح، علاوة على الفنون الأدبية من شعر وخطابة ونحو وفلسفة وقانون ودين، إضافة إلى العلوم الطبيعية والصورية من منطق ورياضيات وفلك وجغرافيا وطب وتاريخ تلك العلوم، وكانت لغة التدريس بالجامعة القديمة لقرطاج هي اللاتينية واليونانية.

وبعد سقوط قرطاج في يد الرومان المحتلين([27]) سنة 146 ق.م، توجه مثقفو شمال إفريقيا القديم – ثامازغا إلى الشرق الإغريقي وأثينا. وفيهما تعلموا العلوم واللغة والفلسفة اليونانية. نذكر من أوائلهم المعروفين الفيلسوف الأمازيغي هاسدروبال القرطاجي (القرن 2 ق.م) الذي رحل إلى أثينا وحضر فيها مجامع الفلسفة هناك خاصة مجمع كارنياديس (Carneades)، ثم أصبح أستاذا مستقلا للفلسفة في أثينا وتقلد في الأخير مسؤولية ما يسمى بالأكاديمية الجديدة. فقد أورد ديوجين اللايرسي (Diogène)، أحد مؤرخي الفلسفة اليونانيين القدامى، أن هاسدروبال ألف أربع مائة(400) كتاب كلها باللغة اليونانية([28]).

ولقد أصبح بعد ذلك، الرحيل إلى أثينا لاستكمال الدراسة، تقليدا علميا تبناه أغلب الطلبة المتخرجين من جامعات شمال إفريقا القديم – ثامازغا. حيث أنه رغم استيلاء الرومان على شمال إفريقيا-ثامزغا منذ القرن الثاني قبل الميلاد، فإن الكتابة باللاتينية لم تبدأ إلا بقرنين ونصف بعد ذلك. وأهم من كانوا في فترة بداية الكتابة باللاتينية، نذكر العالم الفلكي مانيليوس (Manilius) و الكاتب الأمازيغي ترينتيوس (Terentius)([29]).

وكان أغلب طلبة جامعة قرطاج القديمة يزورون روما أو أثينا أو هما معا قصد إتمام دراستهم، وقد دشن إمبراطور روما الإكسندر سيفيروس (A. Severus) (القرن 3 ق.م) ذو الأصل الأمازيغي عادة حميدة تتمثل في تقديم منحة دراسية لطلبة تمازغا لإتمام دراستهم بالمراكز العلمية المعروفة في العالم القديم.

فمن المعروف أن هناك أمازيغ قدامى حكموا روما ومستعمراتها بصفتهم أباطرة، يمكن حصرهم في عائلتين أساسيتين هما: السيفيريون (les Sevéres) والغورديون (les Gordiens) وكلهم رجال أدب وفلسفة.

وكانت جامعة قرطاج تستقطب على الخصوص الطلبة الذين يرغبون في تنمية مواهبهم ومعارفهم في الريطوريقا وعلم الشعر والنحو والطب.

وابوليوس المداوري، كما كان أستاذا بتلك الجامعة، كان يبدأ محاضراته بإحدى اللغتين المذكورتين وينهيها بالأخرى([30])، مثلما عاش بأثينا وكتب باللغتين اليونانية واللاتينية، بل وترجم من اليونانية إلى اللاتينية كتبا في المنطق وفي الفلسفة.

وفي هذا المقام، إنه، خدمة للفلسفة في الجزائر وشمال إفريقيا ولهما وللأمازيغية وبها كإسمنت مسلح للهوية الواحدة المركبة بتعددها، يستلزم العمل الفكري الجامعي الحقيقي وجوب الحصول على تلك المصادر والمراجع وترجمتها ووضعها في المكتبات الجامعية خاصة مع إنجاز دراسات عليها وتمويلها وتثمينها لإخراجها من النسيان والتخلص من حالة التبعية الفكرية، اللازم لأحوالنا وتحديد موقعنا الحقيقي في التاريخ وبه من أجل الموقع الحاضر. فذلك هو العمل الفكري الحقيقي ونوع النضال الحقيقي الدائم والمستمر لا فقط رفع الشعارات أو القيام بالمظاهرات والتظاهرات.

وإن من أشد ما ينقص الفكر ويعوق عندنا هو تاريخ الفكر وتاريخ العلوم، كـ “أس” كما فعالية، لكل أصيل علم وتاريخ، ولكل مدرسة علمية أو تاريخية خاصة، أصيلة وفعالة، باعتبار التاريخ علما وله تاريخ وانتماء يوجبان الإظهار للوجود بحق مع التنقيح والتلقيح. وعلى الأساتذة الجامعيين المشرفين واجب التوجيه لبلوغ القصد بدل الاجترار والتكرار.

بلقاسم سعيد مليكش – ماجيستير فلسفة

بلقاسم سعيد مليكش، أستاذ بجامعة بوزريعة، متحصل على شهادة ماجستير في الفلسفة الغربية، محضر لشهادة الدكتوراه في نفس التخصص بالمدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة. مناضل سياسي ومناضل حول القضية الأمازيغية، عضو بالمجلس الوطني لحزب جبهة القوى الاشتراكية (الأفافاس).


الهوامش والمراجع :

[1]– Cf. Augustin, Epist., 138.

[2]– Monceaux(1894), pp 265-339.

[3]– Apologia, LXIV, LXV.

[4]– Monceaux(1894), pp 265-339.

[5]– النوميديون هم الأمازيغ السكان الأصليين القدامى في شمال الجزائر الحالية، ونسبة إلى دولة نوميديا أنذاك.

[6]– الجيتول أو الجيتوليون هم أيضا الأمازيغ السكان الأصليين لشمال افريقيا القديم، وكانوا بدو متنقلين في جنوب الجزائر الحالية.

[7]– Apologia, XXIV, « Seminumdam et semigaetulum »

[8]– Apuleius, Apologia, XXIV.

[9]– عبد المنعم المحجوب، معجم تانيت: مادة ابوليوس، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 2013.

[10]– P. Monceaux (1894), pp 265-339 ; Apuleius, Apologia, LV, V ; Florida,IX, 2, 6, 31, XVI.

[11]– Étienne-Paul-Victor Monceaux (29 mai 1859, Auxerre1941), est un historien français. Professeur au Collège de France de 1907 à 1937, il est élu membre de l’Académie des inscriptions et belles-lettres en 1912. Publications : * Apulée, roman et magie, Paris, Quantin, 1883, * Les Africains. Etude sur la littérature latine d’Afrique : les Païens, P., Lecène, Oudin & Cie, 1894, V+500pp * Histoire littéraire de l’Afrique chrétienne depuis les origines jusqu’à l’invasion arabe (7 volumes : Tertullien et les origines – saint Cyprien et son temps – le IVe siècle, d’Arnobe à Victorin – le Donatisme – saint Optat et les premiers écrivains donatistes – la littérature donatiste au temps de saint Augustin – saint Augustin et le donatisme), P., Leroux, 1901-1923 et autres.

[12]مملكة الماسيسيل: تقع في وسط-غرب الجزائر وعاصمتها مدينة سيغا واقعة على مصب نهر التافنة في البحر المتوسط، دمرت هذه المدينة فيما بعد ولم يجر تجديدها. كانت هذه المملكة الأكثر اتساعا من حيث المساحة بحوالي ثلثي (2/3) من مساحة الجزائر الشمالية. وسكان هذه المملكة أكثر حرية وأقل علاقة بالسلطة المركزية وأقل استقرار. أهم ملوكها الأقليذ فيرمينا والأقليذ سيفاكس.

[13]–  “توسنا”: بمعنى المملكة و”أقليذ” بمعنى الملك، و”ايلم” بمعنى الإقليم بالأمازيغية أخذا بنظام “خلية النحل”. وأول مملكة أمازيغية ظهرت عند الأمازيغ في الجزائر الحالية هي مملكة برباس في القرن الخامس قبل الميلاد (400-500ق.م) حيث نشأت عن طول النيابة في تسيير وإدارة القبائل الأمازيغية المستقرة الحضرية غير البدوية.

[14]مملكة نوميديا(202- 46 ق.م): تضم كامل التراب الجزائري: نوميديا الشرقية تضم الجزء الشرقي من الجزائر، ونوميديا الوسطى تضم الإقليم الأوسط من الجزائر، ونوميديا الغربية تضم المنطقة الغربية من الجزائر، ثم موريطانيا السطايفية هي الجزء الأوسط من الجزائر، وموريطانيا القيصرية هي الجزء الغربي من الجزائر (المراجع: عبد الرحمن الجيلالي، تاريخ الجزائر العام. عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة. محمد شقير تطور الدولة في المغرب. محمد البشير شينتي، سياسة الرومنة في بلاد المغرب.). وفي مملكة نوميديا لمدة أكثر من قرت ونصف من التوحيد ، تم توحيد منطقة شمال افريقيا من الحدود الجزائرية الغربية بواد ملوية حتى الأراضي الليبية تحت مسمى المملكة نوميديا على مبدأ الموحد مؤسس الدولة الأقليذ ماسينسيسا : “أفريقيا للأفارقة”. وأهم ملوك نوميديا عندئذ هم الأقليذ ماسينيسا موحد المملكة النوميدية (202-148 ق.م)، الأقليذ ماسيبسا حكم (148- 118 ق.م)، الأقليذ يوغرطا حكم وثار ضد الرومان (118- 104 ق.م)، الأقليذ همبسال الثاني حكم (104- 60 ق.م)، والأقليذ يوبا الأول المقتول في معركة ضد الرومان (60-46 ق.م).

[15]مملكة الماسيل: في شرق الجزائر وعاصمتها هيبو (عنابة) ثم مدينة زاما المندثرة ثم أخيرا مدينة سيرتا (قسنطينة). كانت مملكة منظمة جدا بعدد سكان كبير مرتبطون بالإدارة المركزية كثيرا بروابط الولاء والتبعية. أهم ملوكها الأقليذ ليكوماسيس والأقليذ قايا.

[16]الحروب البونيقية (الثلاث): هي التي وقعت بين روما وقرطاجة ولم يقع منها بالجزائر الحالية إلا القليل، لكنها لعبت دورا هاما في التمهيد للإحتلال الروماني للجزائر. ويقسمها المؤرخون إلى أولى وثانية وثالثة. فالحروب البونيقية الأولى (264-241 ق.م) كان ميدانها صقلية، أين انهزمت قرطاجة فطلبت الصلح وتنازلت لروما عن صقلية. والحروب البونيقية الثانية (218-203 ق.م)، كانت انائها قرطاجة قد استعادت بعض قوتها، إذ تمكن قائدها هملكار من تأسيس قاعدة حربية قوية في اسبانيا، وعند موته خلفه ابنه حنبعل الذي هزته نشوة الانتصارات التي أحرزها في اسبانيا فاستفز الرومان بمهاجمة مدينة اسبانية تحت حمايتهم فعادت الحرب معهم أين قرر حنبعل نقل الحرب إلى روما، فنقل القنصل المنتخب “سيبيون الإفريقي” الحرب إلى افريقيا بالتحالف مع ملك الماصيل الأقليذ ماسينيسا ضد قرطانجة وحليفها ملك الماسيسيل الأقليذ سيفاقس، فاستنجدت قرطاجة بحنبعل والتقى الجيشان في زاما بتونس الحالية فانهزم البونيقيون واضطرت قرطاجة مرة أخرى إلى النزول عند شروط روما التي من بينها تسليم الأسطول البحري. أما الحروب البونيقية الثالثة (149-146 ق.م) تعتبر هي أهم الحروب لأن العوامل التي حركتها مختلفة عن ما قبلها، حيث بعد الصلح قامت ثلاثة أحزاب في قرطاحة هي حزب تجاري مالي يهمه السلم قبل كل شيء من أجل ازدهار الصفقات التجارية التي تهم أحفاد الفينقيين في الدرجة الأولى. وحزب استعماري قومي يدعو للتمكين للسيادة القرطاجية بالجيش والحرب وتحقيق نواياها التوسعية بكل حرية. والحزب الثالث هو حزب أمازيغي وطني غرضه الإحتماء من الرومان بالتفاهم مع الأقليذ ماسينيسا والتسليم بمطالبه في تحقيق وحدة الشمال الإفريقي في ظل السيادة الأمازيغية الخالصة من كل تسرب أجنبي وتحت شعاره “إفريقيا للإفريقيين”. وقد كان الأقليذ ماسينيسا في هذه الأثناء  ينتزع من قرطاجة في كل معركة معها مساحات جديدة من الأرض، فشكته قرطاجة لروما باعتبارها حليفة له، ما أثار بتعدد الشكوى مخاوف روما في تطور قوة الأقليذ ماسينيسا التي ستمنعها من تحقيق مشاريعها التوسعية هي أيضا، لأنها تعرف أن الأقليذ ماسينيسا لا يساوم على وطنه وأرضه. وبعد تدبير وجهت روما لجنة تحقيق الى قرطاجة، فاندهشت اللجنة من ازدهار قرطاجة، وعاد أحد أعضائها واسمه “كاتون” يحمل في يديه “تينات طرية” رفعها أمام مجلس الشيوخ في روما قائلا: “أن الأرض التي تنبت هذه الثمار ليس بينكم وبينها إلا مسيرة ثلاثة أيام”، فقررت آنذاك روما القضاء على قرطاج ومحوها من الوجود. وتمكن “سيبيون الأميلي” المكلف من روما بقيادة الحرب من فرض الحصار على قرطاج ودخولها في النهاية بعد مقاومة شرسة وعنيفة في البداية، حيث طلبت روما إعانة الأقليذ ماسينيسا ورفض، فأعاد الرومان وبعثوا صديقه “سيبيون الإفريقي” إليه فوجده قد أخذته المنية. وهكذا بعد القضاء على قرطاجة وموت ماسينيسا تمكنت روما من نصب قاعدة لها في إفريقيا مكان قرطاجة، وابتداء عهد جديد في شمال إفريقيا- ثامزغا. (انظر: محمد مبارك الميلي، مختصر تاريخ الجزائر السياسي والثقافي والاجتماعي).

[17]الإحتلال الروماني (40-430 م): بدأ بعد القضاء على الإحتلال القرطاجي من طرف الملك ماسينيسا عام 202 ق.م  بمساعدة القوات الرومانية المتحالفة مع الدولة النوميدية الموحدة، حيث طمع الرومان الحلفاء في خيرات البلاد الأمازيغية وسعوا إلى التفرقة بين الحكام بمبدأ فرق تسد كما فعلت ذلك من قبل قرطاجة بسياستها حين أوقعت بين الملك ماسينيسا والملك سيفاقس ونشبت الحروب بينهما في أواخر القرن الثالث قبل الميلاد حيث غلب ماسينيسا ووحد نوميديا. وقد حورب الرومان عسكريا من طرف ملوك نوميديا يوغرطة ويوبا الأول و أربيون، كما حاربهم زعماء القوم مازيبا وتاكفاريناس وفراكسن وفيرموس وغيرهم ولم تهدأ الثورات ضد المحتل إطلاقا، بحيث كانت هناك أيضا حركة ثورية قام بها الدوارون (305-429م) لأكثر من 120 سنة انتفاضة ضد الرومان. والتاريخ يشهد أن قسما من بلاد الأوراس والقبائل والونشريس وقسم هام من نجود وهران لم تحتل كلية، فقد ظلت المناطق الجبلية محتفظة باستقلالها، ولم يستحوذ الرومان على السهول المحاذية لها. فلما قتل الأقليذ يوبا الأول استولت القوات الرومانية المحتلة على شرق الجزائر النوميدية وأصبحت تحت الإحتلال الروماني أو تحت مماليك صغيرة بقيادة أحد أحفاد ماسينيسا أو غيرهم في عدة أماكن من البلاد تحت مسميات مختلفة (نوميديا الشرقية أو الغربية أو موريطانيا السطايفية) متحالفة مع السلطات الرومانية المحتلة. وتركت هذه القوات الغزاة الجزء الغربي في يد الإبن يوبا الثاني (64 ق.م – 23م) تحت اسم موريطانيا القيصرية أو الشرقية. وفي عهد موريطانيا القيصرية توحدت بلاد الجزائر الغربية والمغرب تحت حكم واحد هي موريطانيا الكبرى حيث كان لأقليذ موريطانيا عاصمتان هما مدينة أيول (شرشال) بالجزائر ومدينة ليلي (فاس) بالمغرب (انظر: محمد شقير، تطور الدولة في المغرب: ….، مطبعة افريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، 2002، ص 137). وقتل آخر ملك موريطاني الأقليذ باطوليمي (23م-40م) غدرا من طرف الإمبراطور الروماني الذي كان يغار منه لمكانة الأقليذ كابن بنت كليوباترة المصرية ولإتساع مملكة موريطانيا حتى المغرب. وقد بقيت المملكة الموريطانية الوحيدة المستقلة عن الدولة الرومانية لكن متحالفة في الظاهر مع الرومان إلى غاية سنة 40 م أينئذ سقطت شمال إفريقيا – ثامزغا بجميع أجزائه في يد الإحتلال الروماني، من شرق ليبيا إلى غرب المغرب.

[18]– مستوطنة “يونانو-أمازيغية” في شمال إفريقيا في شمال ليبيا (Lybie) الحالية، وعاصمة سياسية وثقافية للمستوطنين اليونان في شمال افريقيا (ثمازغا) القديم، وعاصمة فلسفية للمدرسة الفلسفية القورينائية التي أسسها “أريستيبوس القوريني” (Aristibus) في القرن الرابع قبل الميلاد (400-300 ق.م). ومن بين ممثلي المدرسة أنيكيريس (Anniceris)، هيجيسياس (Hegessias) و أريتي (Areté)، الذين طوروا فلسفة أخلاقية أساسها اللذة التي عادلوا بينها وبين السعادة والفضيلة. وقد ساهم في تأسيس وتطوير هذه المدرسة الفلسفية، أيضا، كل من كاليماخوس (Callimaque)، كارنياديس (Carnéade)، وإراطوستينيس (Erathostène)، وثيودور (Theodore). وقد استقر اليونان في شمال إفريقيا (ثامزغا) القديم منذ 631 ق.م، وكونوا لهم مستوطنة بمنطقة قورينايكا (Cyrénaïque)  بـ ليبيا الحالية. وأسسوا بها مدنا مهمة مثل قورينا (Cyréne) وبارقا (Barca) وأوهيسبيريدس (Euhespérides) (بن غازي الحالية) وغيرها. وقد خاض هؤلاء “اليونانو-أمازيغيون” صراعات عديدة ومتعددة مع السلطة المركزية بأثينا من جهة ومع المجاورين المصريين والقرطاجنيين البونيقيين والسكان المحليين من جهة أخرى، من أجل التوسع خاصة. وأصبحت قورينا دولة مستقلة إبتداءا من 258 ق.م، ثم سيطر عليها الرومان في 96 ق.م، ليستولي عليها العرب في 642 م.

[19]– منه جاءت كلمة ( Cyrène de mer) لوصف حوريات البحر. وقد لمح إليه محمد فلاق (Mohammed Fellag) الأمازيغي في “منولوجاته” لوصف جمال الأمازيغيات.

[20]– St. Augustin, Conf. I. 13.

[21]– Marrou H.-I., St Augustin et la fin de la culture antique, Paris, Boccard, 1937, p. 255.

[22]– Marrou, St Augustin et la fin de la culture antique, Ibid, p.292.

[23]– كانت المدارس الفلسفية عبارة عن جماعات دينية وطرق للعيش من خلال موقف مركزي من وفي الحياة، مجرد ومجسد، معمم وموسع. فالمدرسة الفيثاغورثية مثلا كانت جماعة دينية صوفية منغلقة (Secte) تعبد الأعداد وتعتبر الواحد هو أصل الكون، كما تقول بأن الكون عدد ونغم، بحيث كانت الموسيقى من طقوس العبادة الفيثاغورثية تناغما مع الكون بتصورهم. وكانت لها أتباع وممارسات وشروط للإنتماء وطريقة في السلوك، ومقامات وأحوال في الطريق، ومراتب في الخدمة ….الخ.

[24]– Marrou, St Augustin et la fin de la culture antique, Ibid, p.307.

[25]ظهور اللغة اللاتينية في شمال إفريقيا والجزائر كان بعد احتلال الرومان لمدينة قرطاجنة بتونس، وكانت لغة الجيش والإدارة ثم لغة الديانة المسيحية وأخيرا لغة التعليم. لكن انتشار اللاتينية كان قليلا بين السكان الأصليين المعادين للاحتلال الروماني، فهي لغة المحتل المرفوض من الأمازيغ، بحيث بقيت اللغة الأمازيغية هي اللغة الشفاهية للسكان والعامة في شما إفريقيا- ثامزغا. قال المؤرخ الفرنسي شارل اندري جوليان: “إن جمهرة الشعب في نوميديا لم تخضع ولم تتأثر لا بدين روما ولا بحضارتها، وقد استمر الشعب يتحدث اللغة الليبية (الأمازيغية) أو البونيقية، وظل متمسكا بمعتقداته التقليدية. لقد أخضع لكن لم يذب، ولم يتم القضاء على مقاومته” (المرجع: محمد مبارك الميلي، مختصر تاريخ الجزائر السياسي، الثقافي والاجتماعي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص 54).

[26]– Londey and Johanson (1987), pp 9-10.

[27]كلمة المستعمر: تفيد من الناحية اللغوية التعمير والعمران، بينما المحتل فهو الذي يأتي بحضارة جديدة غير مرحب بها، ويحل بالبلاد رغم إرادة أهلها لتحقيق أطماعه في الإستحواذ على الخيرات واستعباد السكان وتغيير اللغة.

[28]– Diogène L., Vies, IV, 67 : Cicero, Acad., II, 31-32.

[29]– Saetone, Vita Terent., p. 1 et p.5.

[30]– Monceaux, les Africains, pp. 62-63.