تاريخ

الفينيقيون لم يُخرجوا الأمازيغ من العصور الحجرية و لم يدخلوهم التاريخ

في احد مقالاته كتب عثمان سعدي ” هاجر الكنعانيون الفينيقيون في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد للمغرب، حيث أخرجوا بني عمومتهم الأمازيغ من العصور الحجرية وأدخلوهم التاريخ “.  و كتب في مقال آخر ” جاء الفينيقيون العرب من بلاد الشام بالألف الثانية قبل الميلاد وساعدوا إخوانهم الأمازيغ في الخروج من العصور الحجرية، وأدخلوهم التاريخ ونقلوا لهم أساليب زراعية وصناعية كانت سائدة بالمشرق، كصناعة الزيت من الزيتونة التي كانت شجرة برية غير مستأنسة بالمغرب قبل مجيئهم، وكذلك غرس شجرة التين ” .
مقولة عثمان سعدي بأن ” الفينيقيين أدخلوا الأمازيغ التاريخ” ليست جديدة بل سبقه اليها الباحثون الفرنسيون المنتمون الى المدرسة الكولونيالية . ترتكز هذه النظرة على مُسلّمة مفادها ان الأمازيغ لم يكن لهم أي دور في تاريخ شمال افريقيا بسبب قصورهم الفكري و جمودهم و سلبيتهم  . و اقتضت هذه الفكرة تفسير مختلف مظاهر الحياة و اعطائها طابعا مستوردا من الانشطة البدائية كالزراعة  الى الفنون التشكيلية المتنوعة .فبالنسبة  لهؤلاء الباحثين الفرنسيين لم يساهم الأمازيغ في أي شكل من أشكال الحضارة و أنه في شمال افريقيا ” كل  ما ليس رومانيا فهو فينيقي” .
كان دور هؤلاء العلماء شرعنة الاستعمار و تقديم المبرر الاخلاقي للمنظومة الكولونيالية التي جاءت ل”تهذيب و تمدين” هذا الشعب ” المتوحش” الذي لم يؤسس على  مدى تاريخه أي حضارة .
فنلاحظ أن عثمان سعدي و غيره من القومجيين العروبيين  لم يزيدوا عن تدوير هذه الكليشيهات الكولونيالية البالية و التي تراجع عنها اليوم حتى العلماء الفرنسيون انفسهم و التي اصبحت توضع  تحت مسمّى “الانثروبولوجيا الاستعمارية” .

الفينيقيون لم يُدخلوا الأمازيغ التاريخ
تشير المصادر التاريخية و نتائج التنقيبات الأثرية زيف ادعاءات المدرسة الكولونيالية  و تثبت ان الأمازيغ لم ينتظروا مجيء الفينيقيين أو الرومان لكي يتعاطوا الزراعة والصناعة و يؤسسوا المدن . سوف نبيّن في مقال آخر أن الزراعة ظهرت في شمال افريقيا قبل مجيء البحّارة الفينيقيين و ان لا فضل لهم في استئناس الزيتون أو غرس شجرة التين كما يدّعيه عثمان سعدي .
في كتابه ” ماسينيسا او بدايات التاريخ ” يُنصف غابريال كامبس  الأمازيغ و ينتقد المدرسة الكولونيالية الفرنسية التي جعلت من الامازيغ مجرد “متوحشين”  سلبيين  يتلقون حضارة جاهزة آتية من المشرق . فيقول :

“ما هو الوضع الحضاري للأفراقة قبل وصول الفينيقيين ؟ انّ الكثير من المؤرخين لم يتردّدوا في رسم صورة قاتمة لهؤلاء السكّان “المتوحشين” , و أنهم الى تلك الفترة كانوا لا يزالون يصنعون أدواتهم من حجر الصوان و يجهلون أدنى الأشياء التي أنتجتها الحضارات التاريخية أو البروتوتاريخية و محكوم عليهم بالركود و العزلة , و الفينيقيون دون غيرهم هم المتحضرون و المتوفوّقون . و الذين يريدون تفسير كل شيء بالتأثير الفينيقي و جعل المدن البونية صانعة لكل أشكال الحضارة في بلاد البربر يخدعون أنفسهم . و أرى أنّه من الخطير جدّا إدراج كل التقنيات الصغيرة و حتى الزخارف البسيطة للسكان الأمازيغ ضمن الطبقة الأثرية الأخيرة , و القول بأنّها تعود الى البونيين . و الأخطر هو أن نجعل من الفينيقيين روّاد إبحار في المتوسط و الحال أنّه حتى قبل ظهور الملاحة البحرية الحقيقية كانت هناك علاقات قائمة منذ النيوليثي ما بين الشمال الإفريقي و الجزر و أشباه الجزر الأوروبية المجاورة له ” [1].

ثم يفنّد ادعاءات عثمان سعدي و المؤرخين الفرنسيين قائلا :

“الفن الهندسي الأمازيغي متوسّطي بالأساس و لا يد لقرطاج فيه , و يعود الى أصول سابقة لها و كذا الحياة الفلاحية و طرائقها و الممارسات السحرية-الدينية هي كذلك أقدم من علم الزراعة البوني . و مع ذلك فأن الأهمّ في هذه الاهتمامات و هذه التصوّرات هو أن هذه الخصوصيات الأمازيغية نجت عبر القرون و ظلّت حيّة رغم سيطرة حضارات أجنبية “[2] .
و حول تشييد الامازيغ القدامى للمدن فيرى كذلك كامبس ان لا فضل للبحّارة الفينيقيين في ذلك , فيكتب :
“من يوم الى أخر تكشف التنقيبات الأثرية في الطبقات الرومانية و البونية عن مجتمعات أهلية منظّمة إلى حدّ ما و لكنها عارفة بالفلاحة المستقرة قي تجمعات عمرانية , و المثال على ذلك تيفست التي فُرض عليها تسليم 3000 رهينة من أبنائها خلال منتصف القرن الثالث ق.م و هو الدليل على أنّ الأفارقة القدامى لم ينتظروا السيطرة القرطاجية أو الرومانية لتشييد المدن” .
و يكشف خطأ الأثريين الفرنسيين في نسب الدلائل التي كشفتها التنقيبات عن وجود هذه التجمعات العمرانية الى الطبقة البونية فيكتب ” لن نبالغ في التنويه بأهمّية هذه المدن التي تكون قد بنيت في أماكن محصّنة طبيعيا أو أنها كانت تجمعات فلاحية , و لا ريب أن تنظيم مدن كهذه يتضمّن إقامة عمران منسّق و وجود حد أدنى من التسيير الإداري يكون الأثريون احتمالا قد أدمجوا آثاره ضمن طبقات الفترة البونية” [3].
أما هنري باسي  (Henri Basset) المعروف بنزعته السامية و الذي يستشهد به عثمان سعدي كثيرا , فيقول ” لا توجد تأثيرات قرطاجية في المجوهرات أو في أنماط  زخارف الأقمشة البربرية ” .  و بخصوص التقنيات الصناعية الامازيغية يقول  ”  حيثما أمكننا التأكد من اصل التقنية البربرية يمكننا الجزم أنها ليست قرطاجية , في احيان أخرى  ، عندما لا نعرف اصل هذه التقنية، يمكننا القول أنها ليست بونية ”  (أنظر : Les influences puniques chez les berbères. Henri Basset, page 335) .
و قد اخذ عثمان سعدي مقولة ان الامازيغ كانوا يعيشون في “العصور الحجرية الى غاية وصول البحّارة الفينيقيين” من ستيفان قزال احد منظري المدرسة الكلنيالية . لكن عثمان سعدي لن ينقل قطعا رأي ستيفان قزال في مساهمة قرطاجة في الحضارة الانسانية . اذ يقول الاخير في كتابه “تاريخ شمال افريقيا” مايلي :
“و من جانبها فقرطاجة ساهمت قليلا جدا في الحضارة . و رفاهيتها لم تكن ذات فائدة للفن . و قد تحدثنا عما كانت عليه صناعتها التي لم تبدع شيئا . و كانت تتجرجر في أنماط جامدة بأساليب صنعية إما رديئة و إما سيئة . أما بحارتها و تجارها فكان بمستطاعهم أن يقدموا معلومات ثمينة لعلم الجغرافيا و لكنهم أبوا التعريف بينابيع ثرواتهم . و رحلة الملك حنون هي قصة سخيفة  . و بالتأكيد فإن “ماقون” كانت له تجارب في الفلاحة و لكن بعض إفاداته بلهاء و هل كان ما كتبه سوى منوال و جيز لا بأس به ؟ ” [4].

لماذا يؤخذ عثمان سعدي بأقوال المؤرخين الفرنسيين عندما يقولون أن ” الفينيقيين ادخلوا الامازيغ التاريخ” و لا يفعل بأقوال نفس هؤلاء المؤرخين القائلة بأن ” الرومان أدخلوا الأمازيغ التاريخ” ؟ .
الحقيقة ان ذلك له علاقة بمنظومة عثمان سعدي الفكرية , فالفكر العروبي القومجي يحاول دائما ربط تاريخ شمال افريقيا بالمشرق . فهُم يُبالغون في  ابراز الاسهام الحضاري للفينيقيين في شمال افريقيا موازاة مع  طمس اي مظهر للحضارة الامازيغية . كما أن استعمال عثمان سعدي للفظي ” اخوانهم ” و “بني عمومتهم ”  في المقطع الذي ذكرناه في مستهل مقالنا , يكشف كذلك احدى المغالطات التي يروج لها عثمان سعدي ألا و هي “عروبة البربر” . فهو يعتبر الفينيقيين عربا وفق نظرية سخيفة لا تستند الى أي حقائق علمية , فيقوم بإسقاط  التاريخ القديم على واقعنا اليومي  , فيكون لدينا حضارة مشرقية عربية (قرطاج) من جهة في مواجهة قوة امبرالية غربية متمثلة في روما .
على أنه لو كان مختلف الغزاة الذين استعمروا شمال افريقيا من رومان أو وندال أو بيزنطينين قد جاؤوا من شبه الجزيرة العربية فلوجدت عثمان سعدي يسارع لكي يعدّد أفضالهم في  إخراجنا من “العصور الحجرية” و ادخالنا التاريخ .

يوغرطا حنّاشي

[1] “في اصول بلاد البربر , ماسينيسا أو بدايات التاريخ” . ترجمة و تحقيق العربي عقّون

[2] نفس المصدر السابق صفحة صفحة 329

[3] نفس المصدر السابق . صفحة 66

[4] تاريخ شمال افريقيا الجزء الرابع صفحة 486  .
Histoire ancienne de l’Afrique du Nord / Stéphane Gsell

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى