المجاهدة حدَة أولمعمر (عثماني) علبة سوداء عجز الاستعمار عن استنطاقها

تعد حدَة عثماني من بين حرائر الجزائر اللواتي ساهمن في صناعة الثورة التحريرية بمعقلها في منطقة الأوراس، فالمجاهدة التي زارتها النصر بمسكنها لاتزال تحفظ ذاكراتها بطولات وأمجاد عايشتها وكانت جزء منها، كيف لا وهي التي فقدت زوجها الشهيد وأصبحت أرملة  وأم  لخمسة أطفال، و لم يثنها ذلك عن مواصلة الكفاح فجعلت من مسكنها بأعالي جبال الأوراس بمنطقة بليهود ببلدية تيغانمين، مركزا للمؤونة وقاعدة خلفية للمجاهدين، وكانت تقوم بعمل لوجيستي ونجت من الموت في مرات عدة، الحاجة حدة كان محكوما عليها بالإعدام بعد أن تفطنت لأمرها فرنسا الاستعمارية، وتعرضت بعد القبض عليها لأشد أنواع التعذيب ونفيت وسجنت، وبعد الاستقلال شهد لها ببسالتها وبطولتها العدو قبل الصديق.

سرية الثورة جعلتنا نشارك في التحضير لها دون علمنا

 

لاتزال ذاكرة المجاهدة حدَة عثماني أو كما تُعرف بحدَة أولمعمر تحفظ مسيرة كفاحها الثوري ضد المستعمر الفرنسي، حيث لم ينسيها تقدمها في السن وهي البالغة من العمر 93 سنة لحظات ومواقف وبطولات كانت جزء منها خلال الثورة التحريرية بمنطقة الأوراس،   المجاهدة  استقبلتنا وابنها مبارك بن وادة بصدر رحب بمسكنها بمنطقة بليهود وسط مرتفعات تيغانمين، حيث لاتزال تعيش المجاهدة حدَة بمسكنها الذي كان مركزا للمجاهدين خلال الثورة التحريرية في الفترة الممتدة من 1956 إلى غاية سنة 1959 قبل أن ينكشف أمر المركز.

وبمنطقة بليهود التي كانت محل زيارتنا لمقابلة المجاهدة حدَة أولمعمر، لا تزال معالم وشواهد عدة تبرز ثورية المكان، فقبل لقائنا بالمجاهدة وقفنا على مركز للجنود القناصة الفرنسيين ليس ببعيد عن مسكن المجاهدة إلا ببضعة أمتار، وهو المركز الذي دونت عليه لافتة تعريفية مكتوب عليها، بأنه قد شيد سنة 1959 خصيصا لخنق الثورة التحريرية بمنطقة الأوراس، وتبرز أيضا لزائر المكان استراتيجية الموقع الحربي من حيث التضاريس، فقد كانت الجبال والوديان المحيطة بالمنطقة كلها ساحة لمعارك ثورية.

عند وصولنا إلى مسكن المجاهدة حدة وجدناها   تنتظرنا بطلعة بهية في حلة شاوية تسر النظر، وسرعان ما فتحت لنا قلبها، وقد كان اختيارنا إلى هذه المجاهدة  سببه ما  بلغنا عن تاريخها البطولي الذي شوقنا للقائها، وفعلا كان الحديث إليها والاستماع لها شيقا وهي تتحدث بالأمازيغية، ولقد كان التحاق المجاهدة، التي هي من مواليد افتراض سنة 1925، بالثورة قبل اندلاعها، لكن دون علمها بأن الأمر يتعلق بموعد ثورة الفاتح نوفمبر 54.

وتروي حدة أولمعمر كما تعرف كنيتها، بأنها كانت، وبأوامر من زوجها مسعود بن وادة الذي استشهد فيما، بعد تقوم وكنتها بجمع المؤونة والأسلحة وذلك قبل موعد اندلاع الثورة بأيام دون علمهما بذلك، وقالت بأن والدة زوجها شككت في الأمر حينما كانت تسأله عن سبب أوامره بتحضير الأكل بكميات مضاعفة وعن وجهة تلك الكميات مما تحضره، وأضافت بأنها كانت على دراية بأن زوجها على علاقة بالحركة الوطنية منذ سنة 1947 وعلى علاقة أيضا بمصطفى بن بولعيد، وقد لاحظت كثرة غيابه عن البيت و كان حينما يزورهم يأتي رفقة شخص من أهل طورش، ليتضح فيما بعد أنه مجاهد من منطقة إشمول.

وبعد اندلاع الثورة، علمت حدة عثماني بأن ما كانت تقوم به هو استعداد لذلك الموعد، وتتذكر جيدا عشية انطلاق الرصاصات الأولى وحادثة الهجوم على الحافلة بمنطقة تاغيت التي لا تبعد بمسافة طويلة عن قريتها بليهود، و  قالت   بأن خبر الهجوم  حينها بلغهم من عمها علي أومعمر، كما تؤكد بأن صورا ما حشدته فرنسا من قوات عقب اندلاع الثورة لن يمحى من ذاكرتها، مؤكدا بأن فرنسا جنَ جنونها، حيث سرعان ما حاصرت قريتهم وراحت تقوم بعمليات تفتيش للأشخاص والمساكن، وتتذكر أيضا المجاهدة،  بأن وحسب ما بلغهم  كان   أول من تعرض للقتل وسقط شهيدا،  من المدنيين، أحدهم من عائلة بزة من عرش بوسليمان يعمل في طاحونة الماء، ليس ببعيد عن منطقة تاغيت التي شاهدت حادثة الهجوم على الحافلة.

حولت مسكنها إلى مركز للمجاهدين لـ4 سنوات وانكشف أمرها بوشاية

 

قالت المجاهدة حدة عثماني وهي تستحضر ذاكرتها، بأن اندلاع الثورة لم يكن ليمر مرور الكرام على ساكنة قريتها، وما جاورها من قرى عرش أولاد عائشة، بعد أن ذاقوا الويلات وراحت القوات الفرنسية تنتقم منهم بالتهجير والتعذيب والقتل، حتى أنه لم يمر سنة على اندلاع الثورة ليسقط زوجها شهيدا في السابع من شهر أوت من سنة 1955، وكانت قد وضعت حينها مولودها الخامس مبارك، الذي شاءت الأقدار أن يلد يتيم الأب، وتروي المجاهدة وقلبها يعتصر ألما، بأن زوجها تم إفشاء أمره  بصلته بالمجاهدين بعد محاصرة القوات الفرنسية للقرية وحشدها لسكانها، حيث لم يخرج آنذاك زوجها بسبب المرض.

وتضيف محدثتنا بأن زوجها تمت المناداة عليه من قبل قائد عسكري فرنسي هو وعدد محدد من أشخاص القرية في اليوم الموالي من تسجيله لابنه بالحالة المدنية بأريس، وتقول بأنها علمت فيما بعد بأن زوجها تم تحويله إلى سجن أريس، وعلمت أنه لاذ بالفرار قبل أن يتم إلقاء القبض عليه مجددا ويحول إلى تكوت، وقالت بأنها علمت بتعرضه للقتل من طرف القوات الاستعمارية بضواحي شناورة بعد شهرين من استشهاده، حيث أعلمهم أحد الأشخاص الذي تعرف عليه وينحدر من عرش بوسليمان، وهنا تدخل في الحديث الابن الأصغر الذي وصف ما حدث لوالده وللكثيرين بالجريمة في حق الإنسانية،  مشيرا إلى أنه تم الإيقاع به بعد هروبه بمنبع مائي بعد أن كانت القوات الفرنسية تترصد للمجاهدين والفارين بالقرب من المنابع المائية علما منها بأنها مقصدهم ليرووا عطشهم. بعد سقوط زوج حدة شهيدا لم تمر أشهر لتلتحق بالثورة بطلب من جبهة وجيش التحرير الوطنيين، حيث تحول مسكنها بقرية بليهود إلى مركز هام واستراتيجي لجيش التحرير، فتولت مهمة لوجيستية بالتنسيق بين أفراد الجبهة والجيش ونقل المؤونة والسلاح، ويقول ابنها بأن اختيار والدته لتولي مهمات لم يكن عشوائيا من طرف قيادات الثورة، لأنها وأنها امرأة ولم تكن تدور حولها الشبهة، ومن جهة أخرى أوكلت لها مهمات نظير عفويتها وذكائها في التعامل دون لفت الانتباه أو إثارة الشكوك، والدليل على ذلك أنها ظلت تقوم بمهماتها انطلاقا من مسكنها الذي هو مركز للمجاهدين دون أن يتم التفطن لأمرها إلا بعد وشاية.

أخفيت 14 قنبلة يدوية كادت إحداها أن تنفجر فيها

 

قبل انكشاف أمر المجاهدة حدة عثماني واكتشاف أمر مركز المجاهدين ببيتها، كانت قد قامت في الفترة الممتدة من 1956 إلى 1959 من عمر الثورة بعدة عمليات وتضحيات، حتى أنها كانت لتستشهد في إحداها، وهي أحداث لا تزال راسخة في ذاكرتها ، عندما أسندت لها مهمة جلب قنطار من مادة السكر و14 قنبلة نوع «غروناد»، وهي تتبسم لنا ولاتزال تتساءل كيف نجت حينها من موت محقق. وتروي لنا الحادثة وتقول بأنها تلقت مهمة جديدة من جيش التحرير لجلب قنطار من السكر وأيضا 14 قنبلة يدوية، وقالت بأنها كانت تستعمل بغلتها في نقل المؤونة وتحويلها إلى مسكنها أو للنقاط التي تُحدد لها.

وقد تنقلت حينها لجلب السكر والقنابل من منطقة سامر من عند عمار عيشاوي المدعو عمار أوعلي وزوجته زريقة ظافري اللذين يتخذان من مسكنهما أيضا مركزا للمجاهدين، وعمدت إلى نقل  كمية السكر على ظهر  «البغلة»، في حين ولوجود  خطر انفجار القنابل قامت بإحكامها في وشاحها وحملها بطريقة لا تثير الانتباه، وأكدت بأنها تعلم بأنها قد خاطرت بحياتها لكنها في الوقت نفسه كانت على علم بأهمية المسؤولية الموكلة إليها، وقالت بأنها قد تعلمت طريقة استعمال بعض الأسلحة، بما فيها قنابل  «غروناد» الأمر الذي شجعها على حملها.

وقالت المجاهدة، بأنها وهي تنقل القنابل كانت إحداها على وشك التفكك دون أن تنتبه لها، ومن حسن حظها أنها قد بلغت مكان إيصالها أين التقت مجاهدا يدعى محند أفوناس لتسلمها له، والذي اكتشف أمر تلك القنبلة التي كانت ستتفكك وأخبرها بأنها محظوظة وقد نجت، وقال لها بأنها كانت لتترك أطفالها أيتاما، حينها قالت بأنها ردت عليه بأن الله سيرعاهم، ولم تُثن تلك الحادثة حدة عن مواصلة مهماتها فظلت على تنسيق تشكل همزة وصل بين الجيش والجبهة واشتغلت مع عديد المجاهدين على غرار علي عثماني المعروف بعلي أو سي علي، وسي محند حابة، والطاهر معاليم، ومحمد تاربنت ومحمد بهلولي ومحمد بخوش، وكذا المناضلين المدنيين بينهم علي الحاج سبايعي.

ومن بين المهمات التي جازفت المجاهدة بتنفيذها في إحدى المرات والتي لاتزال تتذكرها هي إيهام وتمويه عملاء كانوا يترصدون لها قصد الإيقاع بها في فخهم، وهنا أشار ابنها إلى فطنتها التي جعلت جيش التحرير يضع ثقته فيها، حيث تقول بأن أحدهم حاول استدراجها ، حيث أن طلب منها أخذ ذخيرة وبذلة عسكرية إلى مجاهدي جيش التحرير بعد أن دلها على مكان تواجدها، وكانت قد تفطنت لأمره وقالت لنا بأنها تعرف الصديق من الخائن، مضيفة بأنها حينها ولعلمها بأن الأمر يتعلق بفخ حتى تدل على مكان تواجد المجاهدين غيرت وجهتها قبل أن تعود إلى مكان تلك الذخيرة والبذلة وتقوم بنقلها خفية، وأضافت بأن ذلك أثار غضب الإدارة العسكرية الفرنسية التي شنت حملة تمشيط وبحث عنها.

حُكم عليها  بالإعدام وعُذبت وسجنت بتيبازة

 

أكدت المجاهدة حدَة أولمعمر بأن أمر  تحويل مسكنها لمركز للمجاهدين لم يكن لينكشف لولا الوشاية، ما جعلها تلتحق بإخوانها المجاهدين وإلى جانب مجاهدات أخريات بجبال الأوراس، حيث واصلت الكفاح بالعمل على إعداد الأكل وغسل الملابس، وقالت بأن الأمر لم يكن سهلا بعد أن عاشت ظروفا صعبة لدرجة أنها تنام ورأسها على حجر وسط الثلوج وظروف طبيعية قاسية، ولأن المجاهدة هي أم لخمسة أطفال فقد دفعها الحنين والشوق لفلذات كبدها للمخاطرة في إحدى الليالي لزيارة مسكنها ولقاء أطفالها وهناك قامت بحمل ملابسهم لغسلها بالوادي ليتم القبض عليها.

وقالت المجاهدة بأنه ومباشرة بعد توقيفها تعرضت بسجن أريس لأبشع أنواع التعذيب لدرجة فقدانها الوعي بعد تعذيبها في محاولة لاستنطاقها بالكهرباء، وفي ردها عن سؤالنا عمَا إذا كانت قد أدلت بتصريحات تحت طائلة التعذيب، فنظرت إلينا باستغراب تعكسه ملامحها ورمق عينيها وردت بعد لحظة صمت «كنت مستعدة للموت كيف لي وبأي منطق أن أدلي لهم بمعلومات عن المجاهدين» وقالت بأنها قامت بشتم من عذبها بوصفه بالخنزير، وأشارت إلى اثار جرح كان باديا أسفل عينها بسبب تعذيبها آنذاك. المجاهدة وبعد أن حكم عليها في بداية الأمر بالإعدام بتهمة تشكيل خطر على النظام العمومي الفرنسي، تم إصدار حكم آخر بعد توقيفها بسجنها في مركز بمنطقة تافشونت أو خميسي حاليا بولاية تيبازة، وهناك قالت بأنها كانت تنتظر مصيرا مجهولا وقلبها كان يعتصر حرقة على اشتياق أطفالها بعد أن ظلت بذلك المركز لحوالي سنة، قبل أن يتقرر تحويلها مجددا إلى سجن أريس لتحاكم مرة أخرى بمحكمة باتنة، حيث أطلق سراحها تحت النظر واستبعدت عن قريتها، وكان لتدخل أحد الفدائيين من الأفلان الذي يشتغل بالمحكمة الفضل حسب المجاهدة في مساعدتها ، يدعى نوراني ينحدر من القنطرة.

جنود فرنسيون زاروا  بليهود واعتذروا  من المجاهدة

 

شاءت الأقدار أن تنال المجاهدة حدَة عثماني حريتها من عقوبات الاستعمار الفرنسي تزامنا واستقلال الجزائر، وقالت بأنها وبعد أن صدر في حقها العفو بمناسبة الاستقلال، بأن الجزائر استطاعت نيل الحرية بفضل تضحيات المجاهدين والمجاهدات الذين ضحوا بأنفسهم فداء للوطن، وأن الاستقلال لم يكن يوما ليعطى كما قد يدعي البعض لولا الثورة التحريرية.

وقد كشف لنا مبارك بن وادة الابن الأصغر للمجاهدة حدة عثماني والذي رافقنا بمنطقة بليهود، بأن جنودا فرنسيين ضمن بعثة رسمية كانوا قد زاروا المكان مجددا خلال السنة الماضية وتوجهوا مباشرة إلى مسكن والدته المجاهدة التي اعترفوا لها ببسالتها وشجاعتها وقدموا لها الاعتذار مقبلين رأسها. وكنا قد تركنا المجاهدة بعد ساعات من الحوار الشيق الذي أتاح لنا الغوص في جزء من ذكريات الكفاح المسلح لامرأة حرة بمنطقة الأوراس وهي مسرورة بزيارتنا لها ووجهت لنا الدعوة لزيارتها مرة أخرى لأن الحديث عن كفاحها يطول، لنترك المجاهدة التي اعترف لها العدو قبل الصديق بشجاعتها في مسكنها الذي يحمل ذكرياتها خلال الثورة التحريرية.

يـاسين عبوبو 

المصدر : جريدة النصر