أقلام حرّة

جثة في ساحة الشهداء

– فكرة و توجيه رفيق المسيرة و الصديق الحميم يوغرطا حناشي.

– الأسلوب التحريري و اللغوي هو الأسلوب المتبع عادة عند روائيينا بغض النظر عن استبعاد التعابير السحرية من تماهي و خطوات متثاقلة احتراما لصاحب الفكرة.

– لن أعتذر عن تأخر هذه المحترية فلا أنا و لا القراء نبالي.

 

-1- شهرة

مسرعة الخطى كعادتها مبدية تناسقا شهيا في حركاتها تحت الجلباب الأسود كانت شهرة ترمي بنظراتها إلى الأمام نحو تلك الكومة على الرصيف, لا زالت بعيدة لم تتبيَّنها بتفاصيلها. ركزت بؤبؤها بجهد أكثر فأكثر لتحيِّد كل شيء في منظورها حول تلك الكومة, ما هي بالضبط؟….., وقبل أن تبدأ في سرد الاحتمالات ذهنيا تسربت بشكل مؤلم بعض نسائم البحر الصباحية في تشعُّبات منخارها لتشعر ببرودة حارقة تمتد لتوقن بتجمد في فص دماغها الأيمن, تقاطرت دمعات من عينها تشتت الصورة أغلقت عينيا بقوة ضاغطة بأصابعها على صدغها جارتا قدميها الصغيرتين بتأني على الرصيف, تخلصت من الألم فتحت عينيها على مشهد ضبابي, هزت رأسها في رجة تشبه رعشة الكلب المبتل أغلقت عينيها حاولت تنشيطهما بحركات من أصبعيها فتحتهما مرة أخرى لتكون الرؤية أوضح, لقد فتحت عينيها على تلك الكومة الملقاة لتجدها أمامها مباشرة تكاد تدوسها بمقدم قدميها, تجمدت لحظة تجاوزت فيها الصدمة بسرعة و مع رجة في ركبتيها انتقلت صعودا مع عمودها الفقري انطلقت صرخة رددت الشوارع المجاورة صداها …..النجدة …أرجوكم ….. النجدة …

-2- المفتش

ليس بالصباح الجيد للمفتش أعراب فأن تغلق مقهى الحي من طرف أعوان الرقابة تجعله مضطرا للقيادة حتى المركز ليكلف مراسله بمهمة التزود بخلاصة الحبة السوداء فمقهى الحي هو أول مقهى يفتح على حسب علمه فهو جديد في المدينة.

يغزل المفتاح ليوقظ السيارة من سبات عطلة الأسبوع يتركها تدور ليشعل سيجارته الافتتاحية لليوم, رغبته في كوب قهوة ملحة و تعكر صفاء ما سواها من الأفكار, يأخذ أنفاسا و ينفها بالتوالي دون أن تفارق السيجارة  شفتيه يحدق بالعاكس في حركة يمد فيها رقبته إلى الأمام يفكر في القهوة آثار سهرة البارحة ويوم من العمل ينتظره, يعدل شعره ثم يعدل العاكس ليلاءم القيادة في المدينة.

يا طيبة ….يا طيبة …يا….تفاجئه رنات الهاتف يبدو و أن زوجته قد غيرتها ليلا, يحمل هاتفه يلقي نظرة, لقد غيرت حتى صورة الخلفية هذا أمر يحتاج كوب قهوة. لا تزال القهوة شغله الأول.

-ألو نعم, مبديا انزعاجه.

-ألو سيدي تفضل العميد معك.

يعدل من جلسته بعفوية مستحضرا شكل الابتسامة على شفتيه.

-نعم, نعم .

-ألو أعراب.

-ألو نعم سيدي.

-أين أنت ؟

-أنا في الطريق إلى المركز.

-لا ….توجه إلى ساحة الشهداء هناك جثة.

-نعم س……ينقطع الاتصال.هذا ما كان ينقص صباح المفتش أعراب جثة على السادسة صباحا.

-3- ساحة الشهداء

انعطافة حادة اتجاه اليمين بضغط زائد على الفرامل نشر رائحة المطاط المحترق في كل الساحة, يدخل المفتش أعراب الساحة و يتوجه مباشرة دون تردد استفساري فالموقع واضح من بعيد, أربع سيارات شرطة مختلفة الأحجام بأضوائها الصامتة سيارة الإسعاف التابعة للحماية المدنية بلونها الأصفر تعد معلما ثابتا على مواقع الكوارث عادة, عوني شرطة بهندامهما الكاريكاتوري يقفان بين التجمهر الصغير و بين الموقع, حشد الفضوليين كان ضئيلا هذه المرة على غير العادة في المواقف المماثلة فالحضور اليوم كانوا في الأغلب من الأقلية العاملة المضطرة للاستيقاظ المبكر.

 ترجل المفتش من سيارته و آثار النوم لا تزال مترسبة على ملامحه, توجه نحوه  ضابط – سيدي, لم ينتبه له أو بالأحرى أجل اهتمامه للحظات فصورة الشريط الأمني حول الموقع, امرأة بحالة هستيرية يواسيها رجال الحماية المدنية و أكيد شرطيان ببزة مختلفة عن الجميع, بزة بيضاء أحدهما يحمل كاميرا و الآخر كيس بلاستيكي شفاف ملفوف في قبضته ومجموعة من أفراد الأمن المتحلِّقين حولهما, نسائم البحر, أضواء سيارات الشرطة و الجثة التي جمعت كل هذا المنظر السحري و كأنه فيلم هوليودي بكل ركائزه كل شيء كل التفاصيل لقد كانت لحظة حققت المدينة فيها كل أحلامه و بسرعة, لتكتمل التفاصيل بقهوة في كوب ورقي يدفعا الضابط في يده بامتعاض.

– سيدي القهوة التي طلبت.

أكيد كل ما يحصِّل الكمال قد ينهار دون إرهاصات, لتتلاشى لحظته تلك مع رائحة القهوة, يعدِّل من  وقفته و بنبرة موضحة للسلم الوظيفي بجلاء -نعم …أين الجثة؟ يتقدم متجاوزا الضابط دون انتظار أو توقع الإجابة فالجثة أمامه مباشرة.

-4- تحقيق أولي

أمامه تماما تتكوم الجثة تحت غطاء بلون عجين الأطفال حين تمتزج ألوانه لا شيء ظاهر سوى الشكل العام, يجلس المفتش أعراب القرفصاء رافعا ركبة فوق مستوى الأخرى و كأنه يتجهّز لإطلاق النار من بندقية لولا انحناءه المبالغ نحو الجثة, قلم, هل هناك قلم؟ رافعا رأسه باتجاه الضابطين بالبزة البيضاء ليلاحظ أن أحدهما يضع يده على كنانة المسدس في وضعية إيهام بالارتكاز, يتذكر المفتش أعراب يتحسس مسدسه, تبا لقد نسيه, آخر شيء ينتظره هذا اليوم توبيخ بسبب هفوة تكررت كثيرا, يمد الضابط يده بقلم يختطفه المفتش يعدله بين سبابته و إبهامه ليرفع به الغطاء بتأني محنيا رقبته كأنه يتحضر لحشرها في الأسفل.

كهل في منتصف العقد الخامس يلقي بخده على ذراعه الأيسر الممدد على الرصيف و أثار ضغط حبل أو شيء آخر على أعلى الذراع, أثار حقنة واضحة مع تورم أخضر حولها, كانت عينيه مفتوحتين غائرتين تركزان على العدم, و بقايا زبد أبيض حول فمه و ذقنه التي لم تحلق منذ أسبوع أو أكثر. ذراعه اليمنى مقوسة اتجاه البطن و يغطيها معطف بني موضوع على الكتفين, ساقيه في  وضعية جنينية تبرزان رقعة في سرواله مثبتة تحت الإلية مباشرة .

– انتحار؟

– جرعة زائدة سيدي ؟

– هل معه وثائق؟

-كلها هنا حتى تذاكر الحافلة.

يمد المفتش يده قائما من جلسته, مستهجنا, ألم تستطع الانتظار؟

مع وقوفه بدا الضابط إياه أقصر وكانت كل ملامح وجهه تنذر بغضب يتآكله لكنه ضل صامتا رغم وضوح ما تصرخ به جوانحه.

-ماذا …..؟؟؟!!!مقلبا الأوراق.

-بوحا الشاوي من….. اللعنة …ماذا؟؟؟!!! ما الذي يفعله هذا هنا واضح أنه ليس جندي.

-المباراة ….المباراة سيدي, الضابط و كأنه يستدرك. هناك أعقاب تذاكر الملعب هناك سيدي بالضبط تحت شهادة البطالة.

يقلب المفتش الأوراق من جديد, هذه هي المناسبات التي تجعل أمثال هؤلاء يعتقدون إن العاصمة بلا أبواب ليموتوا في شوارعنا كالمتشردين.

– سيدي تعلم أن جميع المشجعين يضاعفون من جرعاتهم مع المباريات لكن مع مثل هذه المادة يجب اتخاذ الحذر, مبرزا الكيس الملفوف في قبضته.

حقنة طبية و شريط مطاطي بني فاتح مع قارورة شفافة مثلها كمثل السائل الذي تحتويه و الذي يبدو أنه بلا لون و لا رائحة رغم أننا لا نستطيع الجزم. تقدم المفتش أعراب مركزا نظراته على القارورة, عدلها داخل الكيس تمعن في الكتابة بالحروف السوداء “وطنية مصنعة مخبريًّا تسعة و تسعون بالمئة” و تحتها مباشرة تحذير باللون الأحمر “لا تتجاوز الجرعة المحددة”

– ماذا؟؟؟ و هل هو عقار جرعته الزائدة قاتلة, منذ متى؟.

– سيدي ليس طبيعي التركيب ….و هذه العلامة بالذات لا تحترم حتى المعايير الإفريقية …و هو…., يقاطعه المفتش و أين تصنع مثل هذه المواد و من يجيزها ….و كيف؟

– سيدي هل سمعت بالمخبر الألماني في صحراء مصر و الذي تحدث عنه الدكتور النجار.

– لا من هذا النجار؟

تبادل الشرطيان بالبزة البيضاء النظرات مع ابتسامة ساخرة ليغمز الضابط بعينه زميله صاحب الكاميرا و كأنه يقول ما أحجم عنه الجميع هذا اليوم “و ليد الدشرة”

– سيدي انه مخبر للقيام بأبحاث حول الخصائص العلاجية لبول البعير و قد بدؤوا فعلا بإنتاج العديد من العقاقير المخصصة للحيوانات الرئيسة, وهذه العقار بالذات ينتج عادة في الفروع المحلية .

النهاية

تتنهد بعمق, شهرة المستلقية على سريرها, دون جلباب و دون الطبقات المتراكمة من الماكياج لا يمكن لأحد الجزم أنها هي لقد فقدت الكثير من إغرائها أو لعله الهلع, لا …لا أعتقد فأثناء الواقعة و تحت الصدمة كانت لا تزال شهية أو على الاقل هكذا كانت بالنسبة للمفتش أعراب, لكن سلسلة أحداث اليوم و التي تنساب بتوال فوضوي تحاول ترتيبها في ذهنها مُضمَّنة إياها أحاسيس لم تكن في أغلبها حاضرة ساعة الحدث. جثة على الرصيف و هي الشاهد الوحيد, حديثها المقتضب مع الشرطي المسؤول الذي باح لها تحت ضغط الإعجاب بأسرار التحقيق, رقم هاتفه في يدها كل شيء يؤكد أنها هي. لكن لا الجثة و لا حتى إعجابها الغير متكافئ بالشرطي حرما عينيها من النعاس كما فعل السر الذي أفشاه المفتش, “حتى أنواع المخدرات التي تصل لهؤلاء القوم لا نجد مثيلها في شوارعنا إنهم حقا يحكمون البلد”.

موح ترّي 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى