التاريخ المعاصر

محمد عابد الجابري و تنظيره اللاشعوري للقومية المغاربية

تمهيد
يستغرب القاريء الغير متعمق لمحمد عابد الجابري من ربطنا بين هذا المفكر المغربي وفكرة القومية المغاربية، وهو الذي يظهر بجلاء في أغلب كتاباته، بأنه مفكر قومي عربي، وقد اعترف بذلك في العديد من هذه الكتابات، واضعا نصب عينيه، إخراج مايسميها ب”الأمة العربية” من التخلف وإدخالها العصر، وبعبارة أخرى حصر فكره وإنشغالاته في الإشكالية الكبرى لفكر العرب المعاصر، والمتمثلة في كيفية تحقيق النهظة العربية، وماينبثق عنها من تقدم وتحرر ووحدة عربية، وقد اعتمد في تناوله هذه الإشكالية الكبرى على نقد العقل العربي، بهدف تجاوز آليات تفكير العرب السائدة منذ العصور الإسلامية الأولى، والتي لازالت قائمة إلى حد الساعة، مما يتطلب تحقيق قطيعة إبستمولوجية مع آليات هذا التفكير، وإستبدالها بآليات تفكير جديدة تسمح للعرب اليوم من دخول العصرالجديد أو دخول الحداثة .

أمام هذه الحقائق كلها الظاهرة لعيان كل قاريء للجابري، الذي سيبدو مندهشا من إعتبارنا أياه منظرا لقومية أخرى، وهي القومية المغاربية، التي ليس لها أي صلة بالقومية العربية، ولانقصد بها الخصوصية المغاربية، التي أتهم بها الجابري من العديد من مفكري المشرق العربي، رغم محاولات الجابري نفي ذلك عن نفسه .
كي نوضح كيف أصبح الجابري منظرا لهذه القومية المغاربية، رغم وضع نفسه كمفكر قومي عربي، فإننا نعمد في البداية إلى تصنيف أعمال الجابري، ثم تبيان أهم النتائج العلمية التي توصل إليها، مع تركيزنا عن المسكوت عنه في كتابات الجابري، أي الأفكار والطروحات التي لم يستطع الجابري التصريح بها بشكل مباشر، ثم نبين كيف أن هذه النتائج العلمية التي توصل إليها، بالإضافة إلى الكثير من مختلف طروحاته، هي في الحقيقة أسس تخدم فكرة قومية مغاربية متمايزة عن فكرة القومية العربية، بل أكثر من هذا، فإنها تقول بشكل غير مباشر، أن القطيعة مع المشرق العربي وأفكار القومية العربية، هو أحد الشروط الأساسية للقومية المغاربية، إن أرادت هذه الأخيرة ليس فقط تحقيق ذاتها، بل أيضا دخولها عالم الحداثة والمعاصرة والخروج من التخلف، وقبل أن نتطرق إلى هذا كله، علينا أن نوضح للقاريء فكرة القومية المغاربية ومقوماتها.

أولا- مفهوم فكرة القومية المغاربية ومقوماتها
لايمكن لمن يمتلك معلومات بسيطة عن تاريخ منطقة شمال أفريقيا أو المغرب الإسلامي، أن يتجاهل أن البربر أو الأمازيغ كانوا يستوطنون هذه المنطقة الممتدة من سيوا غرب مصر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا ومن جنوب الصحراء الكبرى جنوبا إلى البحر الأبيض المتوسط شمالا، ويعرف عن هؤلاء الأمازيغ مقاومتهم للغزاة عبر التاريخ إنطلاقا من الشعور بإنتماء قومي خاص بهم، وعندما جاء الإسلام دخلوا فيه أفواجا بنسبة تقدر بمئة بالمئة، وقد سمح لهم ذلك بالمساهمة في بناء صرح الحضارة الإسلامية مثل غيرهم من الشعوب و القوميات الأخرى التي اعتنقت الإسلام، ويعتبرون هم صناع الحضارة الإسلامية في الأندلس، بحكم أنهم هم الذي فتحوا هذه البلاد بقيادة أحد زعمائهم الذي أطلق عليه عرب بني أمية طارق بن زياد، كما أعطوا لهذه الحضارة طابعهم الأمازيغي سواء كان ذلك في الأندلس أو في بلاد المغرب، لكن مايؤسف له أن هذه الإنجازات كلها نسبها العرب إلى أنفسهم بحكم طبيعتهم التي ورثوها عن القبائل العربية في الجاهلية، وهي ذهنية السلب والنهب، مما جعلهم يسلبون إنجازات القوميات والشعوب الإسلامية الأخرى، وينسبونها إلى أنفسهم، فأضافوا إلى كل شخصية إسلامية بارزة في هذه الحضارة صفة العربي دون الإشارة إلى قوميته الحقيقية، ويبدو أن ذلك يعود إلى رغبة القوميون العرب اليوم أو بالأمس تغطية مساهمتهم الضئيلة في هذه الحضارة الإسلامية، والتي لاتتعدى فنون الشعر في مجال الآداب وأصحاب المذاهب الإسلامية الخمس في المجال الديني، بالإضافة إلى الكندي في مجال الفلسفة، أما الباقي فهم غير عرب، ولايحق أن ينسبهم العرب إلى قوميتهم بدعوى أنهم أستخدموا اللسان العربي في كتاباتهم، لأننا لو تتبعنا هذا المنطق لحصرنا اليوم العلماء والباحثين العالميين الكبار وعلى رأسهم الأمريكيين، وقلنا أنهم أنجليز، أن إستخدام لغة ما في مجال العلوم، وحتي الخطاب ليس معناه أننا ننتمي إلى القومية التي أمتلكت تلك اللغة أول مرة، لأن لو تتبعنا هذا المنطق الذي يستخدمه القوميون العرب، فأننا سنقول مثلا أن أمين معلوف فرنسي وليس لبنانيا، وأن الكثير من الشعوب الأفريقية التي تستخدم اللسان الفرنسي أو الأنجليزي بأنها تنتمي إلى القومية الفرنسية أو الأنجليزية، ونفس الأمر ينطبق على الأمريكيين والكنديين وغيرهم.

اضطررنا إلى هذا الإستطراد، بهدف الوصول إلى فكرة مفادها، أن الأمازيغ ليسو عربا، حتى ولو استخدم البعض منهم اللسان العربي، ونسوا لسانهم الأمازيغي بحكم عوامل تاريخية ليس هنا مكان التطرق إليها، وكان بالأحرى على الجابري الذي رد على الذين اتهموه بالتعصب للمغرب الإسلامي على حساب المشرق العربي الذي وصفه باللاعقلانية بالقول لهم أن الفلاسفة المسلمين الذين أعطاهم هذا الوصف ليسوا بعرب بل هم في أغلبيتهم من الفرس، وأن هؤلاء كانوا يكتبون باللسان العربي، وقد عاد أحفادهم اليوم إلى الكتابة باللغة الفارسية كما عاد آخرون الى لغاتهم القومية، لكن مايمنع الجابري أن يطبق نفس القاعدة على المفكرين والعلماء الأمازيغ كابن خلدون وابن رشد وابن باجة وغيرهم، فينزع عنهم صفة العرب التي ألصقها بهم، كما نزعها عن ابن سينا والغزالي وغيرهم بهدف نفي اللاعقلانية عن العرب، أم أنه خشي أن يتهموه القوميون العرب أو ماأسميهم ب”الأموين الجدد” بالعمالة لأسرائيل، وانه أراد تفكيك الأمة العربية، لأنه أراد أن يرد مالعثمان لعثمان، أي القول بأن حضارة الأندلس وبلاد المغرب هي من إنجازات المسلمين الأمازيغ، وبذلك يصحح التاريخ الذي زوره هؤلاء القوميون العرب الذين يصرون على إعتبار سكان المغرب الإسلامي عربا متجاهلين حقائق التاريخ والجغرافية والثقافة والعادات والتقاليد.

فمن حق سكان هذه المنطقة الذين يختلفون كل الإختلاف عن العرب أن يفتخروا بقوميتهم المغاربية، والتي تحددها ثلاث مقومات أساسية، وهي الأمازيغية التي تعتبر المقوم الأساسي على مستوى العنصر البشري حيث يشكل الأمازيغ الأغلبية السكانية الساحقة، وهذا لاينفي عدم وجود عناصر أخرى بحكم أن المنطقة معبر بين أفريقيا وأوروبا والمشرق العربي، لكن اندمج هؤلاء كلهم في السكان الأصليين، كما تصاهروا وتزاوجوا معهم، أما على المستوى الثقافي، فإن هناك تشابه كبير في العادات والتقاليد والسلوك والتعبير بين سكان هذه المنطقة، والتي تعود جذورها إلى ثقافة الأمازيغ التي كانت تعتني بثقافات الآخرين بسبب تفتحهم الكبير إلى درجة تبني لغات قوميات أخرى وتعلمها بسهولة، كما فعلوا مع اللغة العربية بعد دخولهم الإسلام، وهذا التفتح على الآخر هو الذي يختفي وراء العقلانية والثراء الثقافي التي تسود الأمة المغاربية على عكس العرب المنغلقون على ذاتهم والرافضين للآخر، مع سعيهم إلى فرض لغتهم وعاداتهم بالقوة إن استطاعوا أو إستغلال الدين لتحقيق ذلك.

ويعد الإسلام مقوما رئيسيا في نفس درجة الأمازيغية، بل يمكن لنا القول أنه دخل في جدلية مع الثقافة الأمازيغية للسكان، فأعطى الأول للثانية طابعها الديني، كما صبغت الأمازيغية الإسلام، فتولد إسلام مغاربي، أي تفاعل مع خصوصيات المنطقة وثقافة سكانها من ناحية الممارسة الدينية مع الحفاظ على جوهر الإسلام وأصوله ومبادئه.
كما أعطى الإسلام اللغة العربية لهؤلاء السكان، والتي هي ضرورية لفهم الدين، فاعتبروها لغة الدين، وليست لغة العرب، فأصبحت هذه اللغة لدى المغاربيين جزءا من الدين، الذي يعتبر عنصرا أساسيا في هويتهم القومية، هذا مايجعلهم يختلفون في هذا المجال عن المشرق العربي الذي لايشكل الإسلام عاملا موحدا لهم عكس المغرب الإسلامي، ولهذا السبب يتهجم المشارقة على الجابري لأنه رفض العلمانية، وقد تناسى هؤلاء أن الجابري انطلق من واقعه المغاربي الذي يسوده الإسلام مئة بالمئة، والذي يشكل المقوم الأساسي للقومية المغاربية عكس المشرق العربي الذي تغلب عليه الطوائف الدينية.

ان ماتحدثنا عنه من أمة مغاربية يجب أن تقودها فكرة قومية مغاربية، امتزجت فيها الثقافة الأمازيغية بروح الإسلام مع تبني اللغة العربية بصفتها لغة الدين الذي أعطى لهذه الأمة المغاربية محركها للبناء الحضاري، بالإضافة إلى التفتح على الآخرين لإثراء الحضارة الأمازيغية الإسلامية.

أن بعد هذا التوضيح لما نقصده بالفكرة القومية المغاربية، يمكن أن يتساءل البعض ماعلاقة هذا كله مع أعمال محمد عابد الجابري، فنقول أن الجابري قد قال نفس الأمر دون أن يصرح به، فنحن أطلقنا عليها قومية مغاربية، أما هو ففضل الحديث عن الخصوصية، إما لاشعوريا أو خشي من أن يحاصره القوميون العرب، وحتى إن كان هذا الأخير قوميا عربيا كما يقول، إلا أننا لا ننفي عليه محاولته الحفاظ على الموضوعية العلمية، وأن تعمقه العلمي هو الذي جعله في حقيقة الأمر يكتشف أمة أخرى تختلف عن العرب في الكثير من الأمور، إلا أنه لم يرد التصريح بذلك، ونعتقد أن هذه النتيجة يتوصل إليها كل باحث جاد إن ألتزم بالموضوعية، وتخلص من تأثيرات سابقة عليه خاصة كتابات القوميون العرب أو “الأمويون الجدد” مثل أمويو الأمس المعروفون بتزوير التاريخ وتزييفه وسلب إنجازات الآخرين، وكان الجابري ملتزما بذلك في أعماله حيث يرفض مثلا العودة إلى الأعمال المنجزة أو الكتب المؤلفة حول أعمال مفكر أراد دراسته، ويعود مباشرة إلى المصادر التي يفككها مستخدما البنيوية والتحليل التاريخي والطرح الأيديولوجي.

هذا مايجرنا إلى العودة إلى أعمال الجابري وتبيان كيف نظر لفكرة قومية مغاربية من خلال نتائجه دون أن يشعر بذلك، أو لعله شعر لكنه خشي من القوميين العرب، هذا مانقصده بالتنظير اللاشعوري إنطلاقا مما يسميه هو نفسه بااللاشعور السياسي واللاشعور الجمعي، وأفضل هذا الأخير بالنسبة لموضوعنا، لأن ماقام به بالنسبة للقومية المغاربية نابع من هذا اللاشعور الجمعي للمجتمع أو الشعب المغاربي الذي بقي راسخا في لاشعوره ذلك الإنتماء الأمازيغي قبل الإسلام، حتى ولو حاول البعض من أبناء هذا المجتمع أو هذا الشعب أن ينسبوا أنفسهم إلى العرب بفعل فقدان هويتهم القومية الأمازيغية لأسباب تاريخية، ليس هنا موضوعها.

وقبل تبيان هذا التنظير اللاشعوري، الذي قام به الجابري بالنسبة للقومية المغاربية، وهو يعمل من أجل خدمة القومية العربية، علينا أن نبرز أهم النتائج التي توصل إليها الجابري من خلال أعماله .

ثانيا- نتائج أعمال الجابري
يمكن لنا تصنيف أعمال وكتابات محمد عابد الجابري إلى ثلاث أنواع، وهي:
1- كتابات هي عبارة عن مقالات صحفية نشرها في صحف ومجلات، ثم رتبها وصنفها في كتب، وتظهر هذه الأعمال ضعيفة من ناحية المحتوى المعرفي والعلمي، بل يمكن لنا إعتبارها مجرد كتابات أيديولوجية وظرفية، يطرح فيها أفكاره وآراءه في الكثير من القضايا التي يعيشها العالم العربي .

2- كتابات هي عبارة عن دراسات نشرت في مجلات أكاديمية أو محاضرات ألقيت في ملتقيات علمية، ثم قام بجمعها وترتيبها لتظهر أنها كتب تدور حول موضوع محدد، وتتصف هذه الأعمال بالجدية والعلمية، لكنها ينقصها العمق، وكأنها تفسير وشرح بأسلوب بسيط للمنهج الذي يتبعه في بحوثه أو للنتائج التي توصل إليها في مشروعه الضخم نقد العقل العربي .

3- مشروعه نقد العقل العربي الذي بدأه في بداية الثمانينات، وهو يضم أربع أجزاء، وهي “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” و”العقل السياسي العربي” و”العقل الأخلاقي العربي” .
يضم هذا المشروع في حقيقة الأمر قسمين كبيرين، فالجزئين الأول والثاني حاول فيه نقد العقل النظري أو بعبارة أخرى نقد آليات إنتاج العقل العربي للمعرفة والأفكار والثقافة، وكل ذلك بهدف تجاوزها وإحداث قطيعة إبستمولوجية معها، ولم يكن في نية الجابري وضع الجزئين الثالث والرابع، لكن بعد المناقشات والإنتقادات الموجهة لعمله، اضطر إلى وضع هذين الجزئين, وصنفهما في إطار ما أسماه بالعقل العملي للعربي أي كيف يتصرف سياسيا وأخلاقيا .

فبشأن العقل الأخلاقي العربي، وصل إلى نتيجة مفادها أن هذا العقل متأثر بخمس مواريث، وهي الموروث الفارسي الذي كان يحتاجه الأمويون لتثبيت سلطتهم، لأن هذا الموروث يجسد ما يسميها الجابري بالقيم الكسروية، نسبة إلى كسرى الفرس، والتي تؤسس للإستبداد بفعل دعوتها إلى الطاعة المطلقة لكسرى مع توظيف الدين في ذلك، ونجد إلى جانب ذلك تأثيرات كل من موروثات اليونان وعرب الجاهلية ثم الموروث الإسلامي، لكن يعتبر أن الموروث الفارسي هو الأكثر تأثيرا في العقل الأخلاقي العربي، وفسر به بشكل غير مباشر الإستبداد الذي يعيشه كل من العالمين العربي والإسلامي، وليتوصل إلى نتيجة أساسية، وتتمثل في القول أنه للتخلص من هذه العقلية الإستبدادية التي ترتكز على الطاعة المطلقة، لابد من القضاء على تأثيرات هذا الموروث، وذلك بقتل ما أطلق عليه أردشير نسبة إلى كسرى الفرس الذي رسخ تلك القيم الأخلاقية .

أما بشأن العقل السياسي العربي، فيضع ثلاث محدادات مؤثرة في الفعل السياسي العربي منذ ظهور الإسلام إلى حد اليوم، وهي القبيلة والغنيمة والعقيدة، وأن هذه المحددات الثلاث تتغير فقط في الشكل، فمثلا الغنيمة اليوم هي الريوع وتوزيعها، لكن بقيت هذه المحددات الثلاث ثابتة في المضمون إلى حد اليوم، وأن التغيير الوحيد الذي يطرأ عليها هو في ترتيبها حسب الظرف الزماني والمكاني، وتوصل الجابري إلى نتيجة مفادها ضرورة تحويل هذه المحددات الثلاث إذا أراد العرب دخول الحداثة السيلسية، فتتحول القبيلة إلى أحزاب ونقابات ومجتمع مدني تتحرك على أساس المصالح الطبقية، وليس على أساس العصبية القبلية والطائفية وغيرها، كما يجب تحويل الغنيمة أو الإقتصاد الريعي إلى إقتصاد منتج، أما العقيدة فيجب أن تتحول إلى مجرد رأي يحظى بإحترام صاحب الرأي الآخر، أي حرية التعبير عن مختلف الآراء دون تكفير أو تخوين وغيرها من الممارسات التي تقمع حرية الرأي والتعبير.

وما يهمنا بالنسبة لموضوعنا هو الجزئين الأول والثاني، خاصة الأخير منه أين يكشف بنيات العقل العربي، فبعد أن يصنف الجابري إنتاج العقل العربي الذي تأسس في عصر التدوين إلى ثلاث حقول، وهي الحقل البياني، ويضم الفقه واللغة وعلم الكلام، أما الحقل العرفاني فيتعلق بكل ما له علاقة بالتصوف والعلوم الباطنية المنتشرة لدى الشيعة، أما الحقل البرهاني، فيضف العلوم وبشكل أخص الفلسفة، التي يعتبرها منتوجا يونانيا .

وعمل الجابري في الجزء الثاني على تحليل هذه الحقول الثلاث لإستخراج بنياتها الثابتة، وتوصل في الأخير إلى أن آليات تفكير العربي منذ عصر التدوين إلى حد اليوم، أي حتى في عصر النهظة، كما وضحه في كتابه الخطاب العربي المعاصر، هي ثلاث، وتتمثل في القياس أي قياس الغائب على الشاهد خاصة في الفقه واللغة وعلم الكلام أي في الحقل البياني، أما البنية الثانية فهي الإنفصال، أي عدم الربط بين الأمور والظواهر والقضايا، ويفسر ذلك بالطبيعة البدوية والصحراوية للعرب، أين يلاحظ التباعد في المساكن وعدم تماسك الرمال، وانجر عن ذلك البنية الثالثة، وهي التجويز، أي عدم تفسير الظواهر سواء كانت إجتماعية أو طبيعية بالسنن والأسباب، والقول أنها عادة، وليست قوانين ثابتة، ويستندون في ذلك بالقول أنه لو قلنا بذلك، فمعناه أننا ننكر النبوة التي تبنى على الخوارق والمعجزات، ويقول الجابري أن ذلك كان سببا في ضعف العلوم الطبيعية والكونية لدى العرب.

لكن يسجل الجابري أن هذه البنيات سادت العالم الإسلامي منذ عصر التدوين إلى حد اليوم، ويستثني في ذلك الأندلس وبلاد المغرب، أين برزت محاولات القطيعة الإبستمولوجية مع هذه البنيات في القرن الثالث عشر الميلادي، وبلغت أوجها في العصر الموحدي، ويتجلى ذلك بوضوح مع الشاطبي صاحب الموافقات في الفقه، وقوله بمقاصد الشريعة بدل القياس الذي وضعه الشافعي فيما مضى، وقد سبق ابن حزم العلامة الشاطبي، حيث أسس للمذهب الظاهري، أي بالإعتماد على النص المتمثل في القرآن والسنة في مجال الفقه، وأن ما لم يرد فيه نص فهو مباح، وهذا الأمر كان جدير بإخراج المسلم من وضع نفسه في قوقعة، كالتي حاول وضعها أبي حامد الغزالي، وكان المذهب الظاهري لأبن حزم كفيل، لو كتب له النجاح والإنتشار، أن يعطي للمسلم حرية وتفتح أكبر على منجزات أي عصر، كما حاول أبن خلدون وضع قطيعة مع بنية التجويز بمحاولته تفسير حركة التاريخ والمجتمع بقوانين وسنن ثابتة أطلق عليها طابع العمران، وبلغت ظاهرة محاولة القطيعة الإبستمولوجية مع ابن رشد في علم الكلام والفلسفة، ومحاولته التأسيس للعقلانية.

وقد كانت الدولة الموحدية وراء ابن رشد مدعمة أياه، كما تبنت المذهب الظاهري لأبن حزم، كما كان ابن تومرت مؤسس هذه الدولة، يدعو للقطيعة التامة مع المشرق العربي سواء كان ذلك على صعيد المذاهب الفقهية أو الكلامية وغيرها.

وبناء على ذلك كله، توصل الجابري إلى نتيجة مفادها، ضرورة العمل من أجل إحداث قطيعة إبستمولوجية مع آليات تفكير العقل العربي وبنياته الثلاث، وذلك بمعاودة ربط هذا العقل العربي من جديد بمفكري الأندلس وبلاد المغرب، الذين شرعوا في هذه القطيعة، ثم مواصلة عملهم، وهؤلاء المفكرين، هم ابن رشد الذي شرع الجابري في إعادة إحياء أعماله، وكذلك ابن باجة وابن طفيل وابن حزم والشاطبي وابن خلدون.

لكن لم يفسر لنا الجابري بإسهاب أسباب عدم تواصل هذه القطيعة الإبستمولوجية إلى نهايتها، بل توقفت، وانتقلت عقلانية ابن رشد إلى أوروبا، لتأخذها بقوة، وتبني عليها النهضة الأوروبية التي هي مهد التفوق الأوروبي على العالم الإسلامي اليوم.

كما يحق للقاريء، أن يتساءل ما علاقة هذا كله بالفكرة القومية المغاربية، وكيف ساهم الجابري في التنظير لها، هذا ما سنحاول الإجابة عليه وتوضيحه بشكل أوسع .

ثالثا- نتائج الجابري وتنظيرها لفكرة القومية المغاربية
أن ما توصل إليه الجابري في بحثه بضرورة إعادة التواصل مع هؤلاء المفكرين المغاربيين والأندلسيين من أجل إحداث قطيعة إبستمولوجية ودخول الحداثة، قد سبق، وأن دعا إليها أحد رواد النزعة القومية المغاربية في نهاية الأربعينات من القرن العشرين، وهو المفكر الجزائري علي الحمامي، الذي مافتيء يدعو إلى إستلهام ابن رشد وابن خلدون وابن تومرت بهدف تأسيس ما يسميه بمذهبية قومية مغاربية، بل كان يعتبر ابن خلدون مؤسس هذه القومية على الصعيد النظري وابن تومرت مجسدها عمليا وسياسيا من خلال توحيد دولة الموحدين لبلاد المغرب بعد ما فشل الزعيم الأمازيغي ماسنيسا في ذلك قبل الإسلام.

إلا أن الحمامي يختلف عن الجابري في هذه الدعوة، فالأول لايهمه العالم العربي، بل مايهمه هو أمته المغاربية، وأكثر من هذا كان يدعو إلى قطيعة مع المشرق لأنه يصدر لنا لاعقلانيته عبر التاريخ، ومنها الأفكار الوهابية في التاريخ المعاصر، في الوقت الذي نسعى إلى بناء حركة إصلاحية عقلانية ومتفتحة سواء على يد بن باديس الصنهاجي الأمازيغي في الجزائر أو علال الفاسي في المغرب.

أما الجابري، فعلى عكس الحمامي، فإنه يدعو العالم العربي إلى إستلهام هؤلاء المفكرين المغاربيين، ولم يفهم الجابري أن دعوته المشارقة إلى ذلك هي صرخة في واد، بل أكثر من هذا فقد قوبلت بالتهجم عليه، وإتهامه بالعصبية المغاربية، رغم كل محاولات إثبات ولاءه لفكرة القومية العربية.

يبدو أن الجابري لم يدرك مدى المركزية المشرقية وتعاليهم على كل مايأتي من بلاد المغرب، لأن المغاربيين هم من الأمازيغ، أي من الموالي حسب تصنيف الأمويين في الماضي، ويواصله اليوم الأمويون الجدد تحت غطاء القومية العربية، فهل يعقل أن يتبع المولى مواليه، وهي الفكرة التي لازالت سائدة إلى حد اليوم لدى العرب تجاه المغاربيين، لأنهم يدركون جيدا أنهم من الأمازيغ، رغم محاولات بعض هؤلاء الأمازيغ إنكار قوميتهم ونسب أنفسهم إلى العرب بفعل عدة عوامل سنتطرق إليها في حينها.

وهذا الأمر يفسر لنا ما لم يدركه الجابري، وهو لماذا لم تنتشر أفكار ابن خلدون وابن رشد والشاطبي وغيرهم في عامة المغاربيين، فكيف ذلك؟

أن المغاربيين بفعل الإستلاب الذي وقع لهم بعد إعتناقهم الإسلام، فأصبحوا ينظرون إلى العرب نظرة تقدير وإحترام، لأنهم قريبون من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا الحملة الأوائل للإسلام، ويعود لهم الفضل في إعتناق الأمازيغ للإسلام وخروجهم من الظلمات إلى النور، هذا كله خلق نوعا من عقدة النقص لدى الأمازيغ المغاربيين إلى درجة نسب بعض هؤلاء الأمازيغ أنفسهم إلى العرب، بل أصبح هؤلاء الآخرين، ينظرون بنوع من الإشمئزاز إلى بني جلدتهم من الأمازيغ الذين حافظوا على هويتهم القومية الأمازيغية.

أن هذا الإستلاب كان وراء إنتشار الأفكار اللاعقلانية أو ما يسميها الجابري بالعرفانية في صفوف المغاربيين بدل أفكار ابن رشد، لأن الأولى آتية من المشرق أي من نفس المكان الذي جاء به نور الإسلام، أما أفكار ابن رشد وابن خلدون وابن حزم وغيرهم، فهي من إنتاج الموالي، فلا تستحق أن تتبع لا من العربي لأنه المولى أو السيد، ولا من الأمازيغي أو المغاربي لأن العربي أعرف بالإسلام في ذهنية هؤلاء الأمازيغ.

فإذا أراد الجابري لأفكاره القيمة أن تجد آذانا صاغية، وتحدث فعلا القطيعة الإبستمولوجية الكفيلة بإدخالنا الحداثة، فعليه أن يوجهها إلى بني قومه وبني جلدته من المغاربيين، وكي يتبعها هؤلاء، عليه أن يعلنها صراحة، بأنه مغاربي النزعة والقومية، كما عليه أن يعمل من أجل إستعادة المغاربيين لهويتهم القومية المغاربية والإعتزاز بها .
ولتحقيق ذلك كله علينا أن نفهم أن النبي محمد)ص)، ليس نبي العرب، بل هو رسول للإنسانية جمعاء، فعلينا نحن المغاربيين والشعوب الإسلامية الأخرى الغير عربية أن تنزع هذا النبي من إحتكار العرب له وإستغلاله للإستعلاء على المسلمين الغير العرب، فعلينا أن ننقل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجدانيا من الجزيرة العربية إلى أوطاننا نحن، كما فعل الأوروبيون، الذين نقلوا السيد المسيح عليه السلام وجدانيا من فلسطين إلى أوروبا، وبذلك فقط نقضي على الإستعلاء العربي، وعلى عقدة نقص بعض الأمازيغ الذين تنكروا لهويتهم القومية، بسبب المزج بين العروبة والإسلام.

ولا نكتفي بذلك، بل ضرورة إحداث القطيعة مع المشرق العربي، ونجدد نفس فكرة ابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية العظيمة، وعلينا أن نعلم أن المشرق بإستثناء الإسلام، فهو لم يصدر إلينا إلا المأساة، آخرها هذه الأفكار السلفية الوهابية المتخلفة التي ولدت الإرهاب وشوهت الإسلام، دون أن ننسى تلك الأفكار القومية العربية وتزوير معلميهم لتاريخنا عندما كانوا يدرسون أطفالنا في مدارسنا في الستينيات والسبعينيات، حتى نسي الكثير منهم أصولهم الأمازيغية، وأصبحوا يعتقدون أنفسهم عربا، فكانوا وراء الفتن في البلدان المغاربية بين الذين حافظوا على هويتهم القومية الأمازيغية والذين تنكروا لهويتهم الأصلية.

أما الطامة الكبرى التي جاءتنا من المشرق، فهي أنهم كانوا سببا في فشل مشروع ابن رشد وابن حزم والشاطبي وابن خلدون وابن تومرت من أجل إحداث قطيعة إبستمولوجية وإنتصار العقلانية الكفيلة بإخراجنا من الإنسداد الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في عصور الإنحطاط، ولولا المشرق العربي لكنا اليوم قد حققنا تلك النقلة، ولكنا في نفس المستوى الحضاري الذي وصلت إليها أوروبا اليوم، بعد ما أخذت عقلانية ابن رشد، ولولا المشرق لكانت اليوم الأمة المغاربية ضمن الدول المتقدمة تدافع عن العالم الإسلامي وحضارته، ولولا المشرق العربي لكنا اليوم أمة مغاربية أمازيغية إسلامية يحسب لها ألف حساب، كما أرادها المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية العظيمة، التي احتضنت عقلانية ابن رشد ومذهب ابن حزم وموافقات الشاطبي وغيرهم من رجال الفكر والعلم والدين.

الخاتمة
وفي الأخير نقول أنه كان حريا على المفكر المغاربي محمد عابد الجابري أن ينقل من التنظير اللاشعوري لفكرة القومية المغاربية إلى التنظير الشعوري لها، وبكل إيمان، إن أراد لطروحاته العلمية و الطريق الذي رسمه على أساسها التحقق على أرض الواقع لإحداث القطيعة الإبستمولوجية ودخول الحداثة، وأنه لايتحقق ذلك إلا بقطيعة مع المشرق العربي اللاعقلاني والمنغلق والمتزمت الذي هو عاجز على إعتناق أفكار الجابري لأنها صادرة من مفكر مغاربي، وتستلهم الفكر والفلسفة المغاربية، بالإضافة إلى عدم قدرتهم من الإستفادة من منجزات الآخرين، بسبب تضخيم آناهم، معتقدين أنهم أفضل من الآخرين، ويشبهون في ذلك بني إسرائيل الذين يحسبون أنفسهم أنهم شعب الله المختار.

المؤرخ والبروفسور: رابــح لـونـيـسـي – جامعة وَهْـرَنْ (وهران) – نوميديا

باسم عابدي

مهتم بالتاريخ بصفة عامة، أطلقت "المكتبة الرقمية الأمازيغية" سنة 2013، وهي مخصصة لتاريخ وثقافة الأمازيغ. وساهمت سنة 2015 في تأسيس "البوابة الثقافية الشاوية"، المعروفة بـ إينوميدن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى