أقلام حرّة

هل يوجد توافق بين الإسلام والديمقراطية ؟

في دراسة استطلاعية اسمها “المؤشر العربي 2014” أنجزها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في قطر (ومديره هو الفلسطيني عزمي بشارة ومن بين أعضائه الوزير المغربي سابقا عبد الله ساعف) ظهر أن نسبة ضخمة من سكان المغرب وبلدان أمازيغية وأخرى عربية تؤيد “فصل الدين عن السياسة”. وجاءت الأرقام في تلك الدراسة هكذا:

– المغرب: 29% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– الجزائر: 41% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– تونس: 71% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– ليبيا: 50% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– موريتانيا: 41% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– مصر: 62% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– لبنان: 86% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– الأردن: 41% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– فلسطين: 34% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– السودان: 34% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– العراق: 59% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– السعودية: 43% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– الكويت: 67% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– اليمن: 41% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– اللاجئون السوريون: 60% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

أما في الدراسة الموالية “المؤشر العربي 2015″ الصادرة عن نفس المركز القطري فقد بلغت نسبة المؤيدين لـ”فصل الدين عن السياسة” في هذه البلدان الأمازيغية والعربية ما يلي:

– المغرب: 41% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– الجزائر: 37% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– تونس: 64% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– ليبيا: لا تتوفر معلومات.

– موريتانيا: 45% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– مصر: 63% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– لبنان: 90% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– الأردن: 42% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– فلسطين: 37% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– السودان: 40% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– العراق: 66% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– السعودية: 34% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

– الكويت: 66% يؤيدون فصل الدين عن السياسة.

وهاتان الدراستان مؤشران مهمان جدا يدلان على أن نسبة محترمة بل ضخمة من المغاربة والشعوب الأمازيغية والشعوب العربية توافق على فصل الدين عن السياسة (وهذه طبعا هي العلمانية)، رغم أن كل هذه الشعوب الأمازيغية والعربية مازالت تعاني من الأمية وإن بدرجات متفاوتة. لو كانت نسبة الأمية منعدمة أو منخفضة فمن الأرجح أن نسبة المساندين لفصل الدين عن السياسة ستكون أعلى بكثير.

ولا يغيب عن اللبيب أن عشرات الملايين من الأمازيغ والعرب في البلدان المذكورة أعلاه الذين يساندون “فصل الدين عن السياسة” هم بالضرورة يرون أنه لا يوجد توافق بين الدين والسياسة. فمن يرى ضرورة في الفصل بين شيئين فهو بلا شك يرى أنهما لا يتوافقان. أليس كذلك؟!

لذلك فإن هؤلاء المواطنين الأمازيغ والعرب (بعشرات الملايين) يساندون الفصل بين الدين والسياسة من أجل تجنب الكوارث التي تنتج عن الخلط بينهما.

1) لماذا يرفض الإسلاميون وجزء من المسلمين العَلمانية (فصل الأديان عن الدولة)؟

يرفض الإسلاميون وجزء من المسلمين العَلمانيةَ غالبا لسببين رئيسين:

– السبب الأول: لأن الغالبية الساحقة من الفقهاء ورجال الدين الإسلامي ترى أن تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الدينية الإسلامية أو دولة الخلافة الإسلامية واجب مقدس، لأن ذلك “تنفيذ لشرع الله وخدمة للإسلام وحماية له من الاندثار”. وأقوى وسيلة لتطبيق الشريعة وخدمة الإسلام وحمايته من الاندثار (حسب رجال الدين الإسلامي) هي سلطة الدولة الإسلامية وسطوتها وهيبتها وبطشها. فالدولة الإسلامية (حسب رجال الدين الإسلامي) لا تستطيع إلا بتلك السلطة والبطش والسطوة أن تردع الأخطار عن الإسلام وتردع المسلمين عن الردة عن الإسلام وتمنعهم من “الفرار من الإسلام” وتمنعهم من التحول إلى أديان أخرى وعقائد أخرى وتتصدى للزندقة والتنصر والإلحاد. كما أن سلطة الدولة الإسلامية ومواردها المالية والبشرية مطلوبة (من طرف رجال الدين) لإنجاز مهمة نشر الإسلام عالميا. هكذا يرى معظم الإسلاميين هذه المسألة ولهذا يريدون إقامة الدولة الإسلامية (أي الدولة الدينية الإسلامية الكاملة) في المغرب وغيره. الإسلاميون يرفضون العلمانية رفضا شديدا لأنها تجعل إقامة الدولة الدينية الإسلامية شيئا مستحيلا. فالعلمانية تمنع أن تكون الدولة منحازة لدين معين وأتباع دين معين. العلمانية تجعل الدولة محايدة دينيا لا تميز بين المواطنين.

– السبب الثاني: الجهل العارم بمفاهيم “العلمانية” و”الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” لدى قطاعات واسعة من المسلمين بسبب تفشي الأمية (الأمية الثقافية وأمية القراءة والكتابة) وانعدام أو ضعف تدريس تلك المفاهيم في المدارس وطغيان التعليم ذي الخطاب الديني والإعلام التلفزي ذي الخطاب الديني، يقابلهما انعدام لـ”تعليم حقوقي وحرياتي وعلماني” وانعدام لـ”إعلام تلفزي حقوقي وحرياتي وعلماني الفكر”.

في المغرب والبلدان الأمازيغية الأخرى توجد في المدارس مادة دراسية تسمى “التربية الإسلامية” يدرسها التلميذ من الأول ابتدائي (التحضيري) إلى آخر سنة من الباكالوريا أي لمدة 12 عاما، ولكن لا توجد مادة دراسية اسمها “التربية العلمانية” أو “التربية على حقوق الإنسان” أو “التربية الديمقراطية” أو “التربية الحرياتية”. وهكذا يحصل التلميذ المغربي والأمازيغي على شهادة الباكالوريا وهو لا يعرف مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية والعلمانية والحرية أو يملك فكرة مشوشة أو مشوهة عنها. لا يتعرف الإنسان المغربي والإنسان الأمازيغي عموما على مفاهيم “حقوق الإنسان” و”الحريات” و”العلمانية” إلا بالجهد الذاتي كمطالعة الكتب والجرائد والمجلات في أوقات الفراغ (لمن كانت له ميول إلى المطالعة والبحث وهي نادرة طبعا في بلادنا).

وكثيرا ما يتعرف جزء من المغاربة على نسخة مشوهة من مفاهيم “الحريات” و”العلمانية” و”حقوق الإنسان” في كتب ومنشورات فقهاء الإسلام ورجال الحركات الإسلامية الذي هم عادة معارضون للعلمانية وحقوق الإنسان والديمقراطية أو لا يستسيغونها إلا قليلا. ويتلخص مضمون هذه الأفكار المشوهة التي يستنشقها المغربي والأمازيغي من كتب وإعلام الإسلاميين في أن العلمانية وحقوق الإنسان والحرية ليست سوى “حرية العري والدعارة والخمور والتفسخ والعربدة” وأنها تدخل في إطار “المؤامرة الصهيونية الصليبية الشيطانية لفتنة الأمة عن دينها”.

الغالبية الساحقة من مساندي العلمانية وحقوق الإنسان والديمقراطية في المغرب وبقية العالم الأمازيغي والعالم الإسلامي تتكون من المتعلمين والنشيطين فكريا الذين يقرأون ويطالعون خارج مظلة التعليم الحكومي والإعلام الحكومي المحافظ المتجمد وخارج مظلة بروباغاندا الحركات الإسلامية الحاملة لمشروع الدولة الدينية التي هي دولة استبدادية بالضرورة. أما الأميون وضعاف التعليم وقليلو المطالعة والكسالى فكريا فإنهم فريسة سهلة لبروباغاندا الإسلاميين المعادية للعلمانية والمعادية لحقوق الإنسان والمعادية للديمقراطية. ويشكل هؤلاء الأميون الحَرْفيون والأميون الثقافيون القاعدة الشعبية الديموغرافية الصلبة للأحزاب الإسلامية والمنظمات الإسلامية.

ولكن رغم نفوذ رجال الدين في المجتمع وسيطرتهم على جماهير واسعة ورغم سياسات الدولة في نشر التدين المَظهري الاستعراضي التعبوي وتدريس الشريعة الإسلامية ورغم ارتفاع نسبة الأمية في المغرب (40% في المغرب) فإن قليلا من التعليم العصري (رغم مشاكله) وقليلا من التمدن قد أفرز تلك النسب الضخمة التي رأيناها أعلاه من المؤيدين للعلمانية (فصل الدين عن السياسة). وأظن أن الجميع سيتفق أن نسبة 41% من مؤيدي فصل الدين عن السياسة في المغرب هي نسبة جد مرتفعة بل مفاجئة للجميع وصاعقة للإسلاميين الذين طالما رددوا أن تأييد الشارع المغربي للعلمانية ضعيف بل معدوم! وها هي الأرقام تصعقهم وتكذبهم. فلتتخيلوا ماذا لو كان التعليم المغربي العصري أجود، وماذا لو كان يدرّس مادة “حقوق الإنسان والعلمانية” من التحضيري إلى الباكالوريا، وماذا لو كانت نسبة الأمية منعدمة أو منخفضة في المغرب وكان الشعب مثقفا يفهم ما هي حقوق الإنسان والديمقراطية والعلمانية. لاشك أن نسبة مؤيدي العلمانية (فصل الأديان عن السياسة والدولة) في المغرب ستكون مرتفعة جدا مثل نسبة مؤيديها في لبنان مثلا حيث وصلت إلى 86% و90% أو في تونس حيث وصلت فيها إلى 64% و71%.

يتفق معظم الديمقراطيين الحقيقيين على أن العلمانية أساس ضروري جدا لإقامة دولة ديمقراطية حقيقية. حينما يقوم الإسلاميون وجزء من المسلمين المتدينين برفض العلمانية (أي رفض فصل الإسلام عن السياسة والدولة) فإنهم عمليا يرفضون الديمقراطية ويجعلون قيامها بالمغرب مستحيلا.

الانتخابات ليست هي الديمقراطية. الانتخابات مجرد عملية تصويت (بصرف النظر عن كونها مزورة أو غير مزورة أو متحكما بها من النظام الحاكم أو غير متحكم بها). فهناك انتخابات منتظمة في المغرب والجزائر وإيران ومصر والسودان ولكننا نعلم جميعا أن هذه الدول ليست ديمقراطية.

2) ما هي: الديمقراطية؟ والعلمانية؟ والإسلام؟ وحقوق الإنسان؟

– الديمقراطية: هي حرفيا “حكم الشعب / سلطة الشعب”، وهي كلمة إغريقية: dēmokratía (من الكلمتين الإغريقتين: dêmos “الشعب”، وkrátos “الحكم / السلطة”). ومن الناحية العملية فالديمقراطية هي تطبيق برنامج أو إرادة الأغلبية مع حفظ حقوق الإنسان للأقلية والأغلبية على أساس المساواة بين كل المواطنين والمواطنات فردا فردا.

– العَلمانية: (بالأمازيغية: tameddanit ، وبالإنجليزية: secularity أو secularism) هي فصل الأديان عن الدولة وعن كل سياساتها العمومية وقوانينها وإجراءاتها. وهذا يعني: الدولة محايدة دينيا، وليس لها دين رسمي، ولا تميز بين مواطنيها على أساس أديانهم ولا تعاملهم على أي أساس ديني. الدولة العلمانية لا تتبنى أي دين بشكل رسمي ولا غير رسمي، ولا تتدخل في أديان وعقائد وتَدَيُّنِ أو عدم تَدَيُّنِ المواطنين ولا تروج أي دين أو عقيدة، ولا تمنع أي دين أو عقيدة من الرواج بين المواطنين. العلمانية لا تسمح لأية مجموعة دينية أو عقائدية أو أيديولوجية بالتحكم في الدولة والمجتمع أو فرض دينها أو عقيدتها أو أيديولوجيتها أو شريعتها على المواطنين. كما أن الدولة العلمانية تضمن للمواطنين الحرية التامة في ممارسة أديانهم بأية طريقة تعجبهم، في حياتهم الخاصة والاجتماعية، سريا وعلنيا.

– الإسلام: (بالأمازيغية: Aykuzen أو Lislam) هو كما نعلم مجموعة من العقائد الأساسية وعددها ستة (الإيمان بالله، وبالملائكة، وبالكتب المقدسة الثلاثة أو الأربعة، وبالرسل ومن ضمنهم محمد، وبيوم القيامة، وبالقدر). وبجانب ذلك فإن الإسلام هو أيضا كما نعلم مجموعة من العبادات الدينية وهي الأركان الخمسة (الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج). ويجب الانتباه جيدا إلى الوضع المزدوج الذي يوجد فيه ركن “الزكاة” في الإسلام حيث أنه شعيرة دينية (من يرفض دفعها فمصيره جهنم في الآخرة) وهو في نفس الوقت ضريبة شرعية يؤديها المسلم للخليفة أو الحاكم المسلم إجباريا (من يرفض دفعها فهو مرتد متمرد على الدولة يقتل أو يعاقب بغرامة ثقيلة أو بطريقة أخرى).

وبالإضافة إلى ذلك فهناك عقائد إسلامية فرعية ضخمة العدد لا تعد ولا تحصى يجب على المسلم الإيمان بها (أو على الأقل عدم رفضها وعدم إنكارها) كالإيمان بعودة المسيح في آخر الزمان، وظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان، وظهور المسيح الدجال أيضا في آخر الزمان، والشفاعة، والصفات الإلهية، وتفاصيل قصص الأنبياء ومعجزاتهم، ووجود الجن والشياطين، ووجود الجنة والنار، وتفاصيل الجنة والنار، ووجود اللوح المحفوظ، والعرش الإلهي، وقصة خلق السماء والأرض، وسدرة المنتهى، والسماوات السبع والأرضين السبع، والنفخ في الصور، ووجود جبريل وإسرافيل وعزرائيل وميكائيل وإبليس، ووجود ملكين على يمين ويسار الإنسان يراقبانه طيلة حياته، …إلخ. وقد يؤدي مجرد رفض واحدة من هذه العقائد الفرعية الكثيرة إلى نقض إسلام المسلم وتحوله إلى مرتد كافر في نظر الفقهاء ورجال الدين والأئمة وفي نظر الدولة الإسلامية التي ستعاقبه كمرتد بمجرد أن يعلن رأيه الرافض لأحد تلك المعتقدات الإسلامية.

ولكن الإسلام ليس فقط عقائد وعبادات، بل هو أيضا مجموعة من التعاليم والقوانين الدنيوية القضائية والسياسية المتعلقة بـ: جمع الضرائب (الزكاة والجزية)، الدعوة إلى اعتناق الإسلام، الجهاد المسلح (“جهاد الدفع” الدفاعي، و”جهاد الطلب” الهجومي)، اختيار أولياء الأمر والحكام والأمراء والخلفاء، قوانين القضاء والأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والإرث، العقوبات ضد المخالفات والجرائم، الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة التجار، العقود والبيوع، كيفية التعامل مع الكفار والمرتدين الخاضعين لحكم الدولة الإسلامية، وغيرها. الإسلام إذن دين ودولة، أي فيه شقان أو جزءان: جزء ديني عقائدي تعبدي روحاني، وجزء دولتي سياسي اقتصادي شريعي دعوي جهادي.

– حقوق الإنسان: (بالأمازيغية: inezgan en wefgan ، وبالإنجليزية: human rights) مجموعة من الحقوق الثابتة يملكها الإنسان وهي غير قابلة للنزع منه ما دام لا يعتدي على حياة أو حرية إنسان آخر. حقوق الإنسان تتمحور حول “الحق في الحياة” و”الحق في الحرية”. ومنهما تشتق كل الحقوق الأخرى كحرية العقيدة والاعتقاد والتدين، وحرية الرأي والتعبير، وحرية التجمع، وحرية التظاهر، والحق في العلاج والرعاية الصحية والأكل والشرب والتعليم والأمن والشغل والسكن، …إلخ. وأحدث تعبير عن حقوق الإنسان هو “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1948 وقبلت به بشكل كامل الغالبية الساحقة من دول العالم باستثناء بعض الدول الإسلامية التي ترفض أو تتحفظ على بعض بنوده خصوصا تلك المتعلقة بالحرية الدينية.

3) المقارنة بين الإسلام والديمقراطية:

عادةً تكون المقارنة بين دين معين ونظام سياسي معين مقارنة خاطئة لا معنى لها، لأنهما شيئان ينتميان إلى تصنيفين مختلفين ويُستخدَمان في مجالين مختلفين قليلا ما يتداخلان. فالأديان عادةً هي مجرد عقائد يعتنقها الناس وعبادات يمارسها الناس في حياتهم الشخصية والاجتماعية بعيدا عن السياسة، وبالتالي فلا توجد نظريا أية علاقة مباشرة للأديان (العقائد الروحية والعبادات الطقوسية) ببناء الدول وجمع الضرائب وتسيير الاقتصاد والجيوش وممارسة الحكم وتدبير الشؤون العمومية والمعاملات بين البشر.

أما النظام السياسي فهو عادة مجرد أفكار ومبادئ وقوانين حول كيفية الحكم وبناء الدولة وضمان الحريات والحقوق وتنظيم العلاقات والمعاملات والمصالح والمؤسسات في المجتمع وكيفية حل الخلافات وتنمية المجتمع، ولا رأي له عادةً في عقائد الأفراد وأديانهم وحياتهم الخاصة والاجتماعية.

يقدّر عدد الأديان والعقائد في العالم بحوالي 4000 دين وعقيدة، تتوزع على: المسيحية (32% من سكان العالم)، الإسلام (23% من سكان العالم)، الهندوسية (15% من سكان العالم)، البوذية (7% من سكان العالم)، أديان وعقائد شعبية أفريقية وصينية وأمريكية وأسترالية (6% من سكان العالم)، أديان وعقائد أخرى (1%)، اللامنتمون واللادينيون والملحدون (16% من سكان العالم). وهذه الأرقام من منظمة Pew Research Center.

لا يملك كثير من أديان العالَم المعروفة لنا شقا فقهيا سياسيا وتشريعيا مفصلا متعلقا بالحكم والسلطة والحرب والسلام والضرائب الشرعية على منوال الزكاة والجزية، وإنما ما يشغل أغلبها عادة هي العقيدة والعبادة والأخلاق وطريقة حياة الفرد في المجتمع. أما حالة الإسلام فهي مختلفة عن كثير من الأديان الأخرى. فالإسلام قرآناً وأحاديثاً وسيرةً وتفاسيراً يشتمل على شطرين اثنين في نفس الوقت:

– العقائد والعبادات.

– الدولة والحكم والقضاء والضرائب (الشريعة / الخلافة الإسلامية).

الديمقراطية لا تهتم ولا تكترث لعقائد وأديان الناس ما دامت تلك العقائد والأديان لا تفرض بالإجبار والإكراه على الناس وما دامت لا تهدد حياة الناس وحريتهم. الديمقراطية هي فقط أن يمارس الشعب سلطته في الشؤون العمومية كالاقتصاد والصحة والتعليم والإدارة والعدالة والأمن والدفاع. الدولة الديمقراطية العلمانية حينما لا تكترث لعقائد وأديان الناس فهي لا تحتقرها ولا تحاربها وإنما تعتبرها هوايات شخصية للناس وقناعات شخصية خاصة بهم لا دخل للدولة فيها.

4) الجانب السياسي في الإسلام: الزكاة ركن ديني وضريبة سياسية في نفس الوقت

لابد أن أقوى جانب سياسي في الإسلام لا يمكن إنكاره هو: فرض الضرائب (الزكاة والجزية).

وأحد التعريفات الممكنة لـ”الدولة”: كيان أو سلطة أو تنظيم يفرض الضرائب.

ولا توجد دولة في التاريخ لم تفرض الضرائب، وإلا فلن تستطيع تجنيد جندي واحد.

الزكاة في الإسلام هي ركن من أركانه التعبدية الخمسة وهي في نفس الوقت ضريبة للدولة الإسلامية. الزكاة هي مجال ديني – سياسي مشترك يتداخل فيه الديني مع السياسي. الزكاة يمكن اعتبارها “جذعا مشتركا” بين الديني والسياسي في الإسلام. حاليا لا ينظر معظم المسلمين إلى الزكاة على أنها ضريبة، وذلك لوجود الدولة الحديثة (في المغرب وغيره) التي تخلت عن “نظام الدولة الإسلامية” واستنسخت معظم نظامها الاقتصادي (الضريبي) والسياسي والإداري من الأنظمة والقوانين الأوروبية والأمريكية، جزئيا في بعض الحالات وكاملا في حالات أخرى.

ولأن الدولة الحديثة (المغربية، الجزائرية، التونسية…) لم تعد تسمي ضرائبها بـ”الزكاة والجزية والخراج” فقد نسي معظم المسلمين أن الزكاة في الإسلام “ضريبة تدفع للحاكم”، وأصبحوا يظنون أن الزكاة في الإسلام هي نوع من “الصدقة الواجبة” أو أنها مجرد فريضة تعبدية فردية كالصلاة والحج.

أما لدى الدول الإسلامية القديمة وإلى غاية القرن العشرين فقد كانت الزكاة ضريبة تجمعها الدولة بشكل منتظم وتدفع بها مصاريف قصر الخليفة وأجور جنوده، وكانت الدول الإسلامية تجمع بالسلطة والإجبار أموال الزكاة من المسلمين وأموال الجزية من المسيحيين واليهود وبقية الكفار الذميين. وبجانب الزكاة والجزية فرضت الدول والإمارات والخلافات الإسلامية منذ قرون على رعيتها المسلمين والكفار الذميين أنواعا أخرى من الضرائب كضريبة الخراج وضريبة العشر. وفي عهد الدول والخلافات الإسلامية كان من يرفض دفع الزكاة للدولة يعتبر أتوماتيكيا مرتدا عن الإسلام يجب قتله أو عقابه، لأنه متمرد على الدولة الإسلامية ذات الدين الإسلامي الرسمي الذي تشكل الزكاة أحد أركانه.

في الدولة الإسلامية (حيث الديني والسياسي شيء واحد) يتم تطبيق هذا المنطق:

بما أن: الدولة إسلامية،

وبما أن: الزكاة أحد أركان الإسلام (والجزية واجبة على الكفار الذميين)،

فإن: الزكاة ضريبة إجبارية تُدفع للدولة الإسلامية.

وهذا يعني أن:

رفض دفع الزكاة = رفض الإسلام = رفض أداء الضريبة للدولة الإسلامية.

أي أن:

رفض دفع الزكاة = ردة عن الإسلام دين الدولة = تمرد على الدولة الإسلامية.

حينما نقول أن الإسلام “دين ودولة” فنحن نقصد فرض الزكاة والجزية (الضرائب) وتطبيق القوانين الإسلامية والعقوبات الإسلامية (الحدود الشرعية)، وكل ذلك ضمن الشرائع الإسلامية المذهبية العديدة التي طبقتها تلك المئات من الإمارات والخلافات والإمبراطوريات والدويلات الإسلامية التي حكمت عبر القرون الماضية، من إندونيسيا إلى تامازغا. وكلها دول طبقت شريعة إسلامية معينة (شيعية، سنية، خوارجية، إباضية، …إلخ) في تدبير وسياسة الدولة، بتأييد من الفقهاء لها وتنظيرهم لها وتبريرهم لسلطتها. وأحيانا كانت تلك الشرائع الإسلامية مختلطة بالشرائع العرفية المحلية والعادات العرفية لمختلف الشعوب والأنظمة التقليدية السابقة للإسلام.

5) هل يوجد توافق بين الإسلام والديمقراطية؟

الجواب باختصار: لا.

لا يوجد توافق بين الإسلام والديمقراطية للأسباب التالية:

– لأن الإسلام والديمقراطية نظامان فكريان وسياسيان مختلفان ومستقلان ومكتفيان ذاتيا، يقدمان نفسيهما كبديلين لبعضهما البعض (في مجال السياسة والدولة).

– لأن المرجعية الفكرية والتشريعية للإسلام مختلفة عن المرجعية الفكرية والتشريعية للديمقراطية. النصوص المرجعية التي تؤسس للإسلام كدين وكدولة (القرآن والأحاديث والسير والتفاسير) ليست هي النصوص المرجعية التي تؤسس للديمقراطية (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدساتير العلمانية الديمقراطية والفلسفات المشابهة المتمحورة حول الحياة والحرية والمساواة بين المواطنين والمواطنات).

– لأن الأهداف النهائية للإسلام (دينا ودولة) مختلفة عن الأهداف النهائية للديمقراطية. فالأهداف النهائية للإسلام سياسيا ومجتمعيا هي إقامة وتطبيق شرع الله ونشر الإيمان بالإسلام عالميا (بالدعوة السلمية أو بالجهاد المسلح، حسب الظروف) ودحر كل “العقائد الضالة” و”الأديان الكفرية” وإزالتها (سلميا أو جهاديا، حسب الظروف) والاستعداد ليوم القيامة والحياة الآخرة. أما أهداف الديمقراطية فهي إقامة وتطبيق حقوق الإنسان في المجتمع وتطبيق شرع الشعب وإرادته وضمان الحقوق والحريات الفردية للجميع وتحقيق سعادة ورفاهية الناس في الحياة على أساس المساواة.

إذن فحينما يتضح الفرق بين الديمقراطية من جهة والإسلام (بشطريه الديني والسياسي) من جهة أخرى، فحينئذ سيتوجب على الناس (في بلداننا الأمازيغية مثلا) الاختيار بين نظام “الدولة الإسلامية” ونظام “الدولة الديمقراطية”. فإذا اختاروا نظام “الدولة الإسلامية” عن وعي واقتناع عقلاني فهنيئا لهم. وإذا اختاروا نظام “الدولة الديمقراطية” عن وعي واقتناع عقلاني فهنيئا لهم. المهم أن يختاروا بعد تفكير وفحص على ضوء الحقائق الأساسية المتعلقة بالإسلام والمتعلقة بالديمقراطية. الكارثة هي حينما يختارون ما يختارونه دون تفكير، متبعين عواطفهم فقط أو متبعين تقاليدهم أو متبعين اتجاه القطيع.

أما إذا اختار الناس أن يجمعوا ويوفقوا بين الإسلام والديمقراطية فسوف يضطرون حتما إلى دفع ضريبة التوفيق والجمع بينهما وهي: التخلي عن نصف الإسلام والتخلي عن نصف الديمقراطية. وستكون نتيجة ذلك الجمع والتوفيق دولة هجينة ممسوخة، لا هي إسلامية ولا هي ديمقراطية، عرجاء في اشتغالها، متناقضة في قوانينها، وغير قادرة على تحقيق أي تقدم حقيقي ولا أية عدالة حقيقية.

6) الدولة الديمقراطية والدولة الإسلامية والدولة الهجينة:

الدولة الديمقراطية مبنية على حقوق الإنسان والحرية والعلمانية. في الدولة الديمقراطية لا شيء يعلو فوق حقوق الإنسان والحرية والعلمانية ولو كان الله أو الآلهة أو الأنبياء أو الكتب المقدسة أو الأديان أو العقائد أو الرموز المقدسة. بدون تطبيق العلمانية وحقوق الإنسان وضمان الحرية كاملة لكل الناس فردا فردا فإنه لا وجود للدولة الديمقراطية.

الدولة الإسلامية مبنية على الشريعة (أو الشرائع) الإسلامية الموجودة في القرآن والأحاديث والسير النبوية والتفاسير (حسب كل مذهب إسلامي). في الدولة الإسلامية لا شيء يعلو فوق الله والنبي والشريعة الإسلامية ولو كانت حقوق الإنسان أو الحرية أو المساواة أو الحق في الحياة. بدون تطبيق الشريعة الإسلامية التي هي القرآن والأحاديث والسِّيَر النبوية والتفاسير فإنه لا وجود للدولة الإسلامية.

أما الدولة التي تخلط بين بعض مبادئ وشرائع الإسلام وبعض مبادئ حقوق الإنسان والعلمانية والديمقراطية فهي دولة هجينة لا هي إسلامية ولا هي ديمقراطية، والفشل حليفها على المستوى الحضاري والاقتصادي والاجتماعي، حتى لو تمتعت ببعض الاستقرار الأمني السطحي المبني على القبضة البوليسية أو الريع (النفطي أو الفوسفاطي أو السياحي أو التجاري). وسبب الفشل هو التناقض الشديد بين المنظومة الفكرية العلمانية الحقوقية الديمقراطية والمنظومة الفكرية الإسلامية. فمن يجمع بين منهجين متناقضين في إنجاز مهمة واحدة سوف لن يستطيع إنجاز المهمة بنجاح، وهو مثل من يضع الفحم مع البنزين في خزان وقود السيارة ثم ينتظر منها أن تشتغل بسلاسة وبدون مشاكل.

نحن نعرف أن دول إيران والسعودية والسودان وموريتانيا هي دول مستقرة وهادئة أمنيا ولكن لا يوجد عاقل يقول أن شعوب هذه الدول تعيش في راحة وسعادة وحرية ولا أن هذه الدول ناجحة حضاريا واقتصاديا واجتماعيا، وإنما هي شعوب بائسة متخلفة مقهورة يعيش جزء كبير من سكانها في بؤس تتعدد أشكاله ومظاهره.

والمغرب أيضا مستقر وهادئ أمنيا منذ مدة طويلة ولكنه دولة استبدادية متخلفة تتربع على الرتبة 126 عالميا في مجال التنمية البشرية، ويعيش جزء كبير من سكان المغرب في رداءة عامة وبؤس وفقر وظلم وفساد إداري وفشل حضاري وفقر إبداعي في ظل قمع بوليسي للحريات ورقابة دينية إسلامية على الحريات. ويعلم القاصي والداني أن جزءا ضخما من شباب المغرب يهاجر سنويا أو يسعى للهجرة إلى دول أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا التي يعلمون علم اليقين أنها دول علمانية ديمقراطية لا تطبق الإسلام إطلاقا ولا علاقة لها بالدين الإسلامي ولا بالشريعة الإسلامية من قريب ولا من بعيد.

حينما يلجأ ويهاجر المغاربة وبقية الأمازيغ وبقية المسلمين بتلك الأعداد الهائلة سنويا بشكل شرعي وغير شرعي إلى الدول الديمقراطية العلمانية في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا أليس هذا تصويتا واضحا لصالح الدولة الديمقراطية العلمانية وسحبا للثقة من الدولة الإسلامية الاستبدادية؟!

في مقال قادم سوف نتعرف بالتفاصيل على الفرق بين “الدولة الديمقراطية” و”الدولة الإسلامية”.

مبارك بلقاسم

tussna@gmail.com

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى