الحلف الشرقي والحلف الغربي…

إن الـمتتبع لسير الـحرب أثناء التوغل العربي في شـمال إفريقيا، يقف على روايات كثيرة متعددة، وأحيانا متناقضة، لكنها لسوء الـحظ تسير كلها بـمنظور أحادي، وسعيا لفهم أعمق لـمرحلة من أكثر مراحل شـمال إفريقيا تأثيرا، قمت بـجمع كل ما وصلت إليه من روايات ووجهات نظر، مقارنا إياها مـحاولا الـجمع بينها، علها تقودنا إلى صورة أوضح لهذه الـمرحلة التي مازال الضباب يلفها.

الذي لا جدال فيه هو أن الوجود البيزنطي لـم يكن بالقوة الطاغية التي تـمسك منفردة بزمام كل شيء كما تـحاول بعض الكتابات تصويره، بل كانت هناك مـمالك وإمارات أمازيغية على جانب كبير من القوة لدرجة أن البيزنطيين يتحالفون مع بعضها لدحر الأخرى، كما بعض الأعمال اللاتينية تذكر أسـماء هؤلاء القادة مقرونة بلقب أمير مثلما نـجده في قصيدة كوربيوس الـمعروفة

“…في أول الأمر خرج أنطلاس أمير الـمور للحرب انتقاما لـمصرع أخيه…”

ويكفي أن نقرأ مثلا عن الـحرب الـمورية الكبرى ( 544 – 548 ) لنعرف مدى قوة هذه الإمارات والتحالفات القبلية، وأيضا نـجد عند ابن خلدون نصا يقترب من تصوير الواقع إذ يقول :

“…وكان للبربر في الضواحي وراء الأمصار الـمرهوبة الـحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال، وأمراؤهم لا يرامون بذل، ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك مسخطة الإساءة …”

والـمطلع على الفترة البيزنطية سيجد أسـماء أمراء أمازيغ كانوا ثقيلي الوزن في الـمعادلة السياسية والعسكرية في شـمال إفريقيا من قبيل الأمير أنطيلاس ويارنا وكركاسن وكوتزيناس وبيداس ومازوناس وغيرهم.

إن أول اصطدام كبير واجهه العرب في شـمال إفريقيا هو موقعة سبيطلة، حيث تشير الـمصادر إلى أن جرجير تـمرد على بيزنطة واستقل بشمال إفريقيا معلنا نفسه إمبراطورا على الروم والبربر، ويـحدثنا الزمـخشري وإبن عذاري أن سلطانه كان من طرابلس إلى طنجة، استطاع جرجير أن يـجمع جيوشا كبيرة من الأمازيغ والـحاميات البيزنطية واصطدم بـهم مع العرب في سهل سبيطلة سنة اثنتين وعشرين  أو خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين للهـجرة  على اختلاف الروايات ويصور لنا إبن كثير هذا في الـمجلد السابع كالتالي:

ولـما قصد الـمسلمون إفريقية وهم عشرون ألفا … صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومئة، وقيل مئتي ألف… فلما تراءى الـجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف الـمسلمون في موقف لم ير أشنع منه، ولا أخوف عليهم منه …”

انتهت موقعة سبيطلة بـمقتل جرجير وانـهزام جيشه، فشن الـمسلمون الغارات ونصبوا الكمائن لـملاحقة الـمنهزمين، حيث نـجد أن العرب سبقوهم إلى حصن سبيطلة وحالوا بينهم وبين دخوله، في حين ثارت الكمائن في كل وجه لاعتراضهم، فنجد عند إبن أبي دينار في كتاب الـمؤنس :

“… وبث عبد الله بن أبي سرح سراياه فبلغت قصور قفصة …”

كما أن إبن خلدون يؤكد هذا عندما يقول :

“… وانساح الـمسلمون في البسائط بالغارات، ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتال وسبي، حتى لقد حصل في أسرهم يومئذن من ملوكهم صولات بن وزمار… وهو يومئذن أمير مغراوة وسائر زناتة…”

من الـجمع بين هذه الروايات نفهم أن جرجير قد تـحالف مع أمراء أمازيغ تـماما كما كان يفعل يوحنا وسولومون وغيرهما من القادة البيزنطيين قبل قدوم العرب، وأن من بين الأمراء الذين شاركوا صولات بن وزمار الذي تم أسره أثناء الـمطاردات التي أعقبت معركة سبيطلة مباشرة، وأن أسر صولات وقع بالقرب من قفصة، وهذا يتطابق تـماما مع إمارة الـمزاق التي كان عليها الأمير أنطيلاس، بل إن الـممالك التي يـحدثنا العرب أنها اعترضت سير الفتح هي مـملكة جرجير والتي كان صولات أحد حلفائها، ومـملكة أوربة التي ظهرت فيها شخصية آكسل بن لـمزم، إضافة إلى مـملكة جراوة التي تزعمتها ذايا – ذيهيا، والتي تشكل جميعها ثلاث مـمالك الشرقية منها في منطقة الـمزاق يتزعمها صولات، والغربية تـهيمن عليها أوربة بزعامة آكسل، والوسطى تسيطر عليها جراوة بزعامة ذايا – ذيهيا، وهنا يـمكن مطابقة الثلاثي ( صولات، ذايا آكسل) بالثلاثي ( أنطيلاس، كوتزيناس، بيداس) في الفترة البيزنطية، بل أكثر من ذلك نلاحظ بعد مقتل جرجير أن صولات الأسير حُمل إلى عثمان بن عفان بالـمدينة فأسلم وعقد له على قومه وبلده، وعاد إلى أرضه ليساهم في القتال، وقد ذكرت في موضوع أوسمر حسب بيار كاستل مسؤولية صولات في قتل أوسمر على اـلجبل الذي يحمل إسم أوسمر إلى اليوم جنوب ثيفست (تبسّا)، وهو ما يُفسر بانـخراط صولات في خط العمليات العسكرية إبتداءً من حملة عقبة بن نافع سنة ستة وأربعين للهجرة ـ، ولـمن أراد الاطلاع عليه بالعودة إلى موضوع أوسمر.

بعد هذا الـحادث يعود الـحلف القديم الذي ظهر في الفترة البيزنطية إلى الظهور، حيث أن القبائل الطرابلسية وقبائل الـمزاق تتحد لتكون حلفا مع الـجيوش العربية ضد المملكتين الوسطى (ذايا – ذيهيا – الكاهنة ) والغربية ( آكسل ) الـمتحالفة مع البيزنطيين، وهذا صورة مكررة للحلف الذي ظهر في الفترة البيزنطية حيث نجد يارنا وكركاسن زعيمي القبائل الطرابلسية ( لواتة والأسترياني ) يتحالفان مع أنطيلاس زعيم الفراكسة ( منطقة الـمزاق )، ضد البيزنطيين الذين كان حلفهم يضم أيضا كوتزيناس (الإمارة الوسطى ) وبيداس ( الإمارة الغربية ) فنجد أنه سنة خمسمئة وأربعة وأربعين جمع كوتزيناس ثلاثين ألف مقاتل، وأرسل بيداس إثنتا عشر ألف مقاتل مع أخيه ليناصروا سولومون ضد أنطيلاس والقبائل الطرابلسية، وهو نفس ما حدث في بداية الفترة الإسلامية حيث أن صولات بن وزمار (الـمزاق ) انـحاز إلى العرب كما يظهر هلال بن ثروان اللواتي يقود قومه على مقدمة حسان بن نعمان لـمهاجمة ذايا – ذيهيا ( الإمارة الوسطى ) حيث نجد عند إبن عبد الحكم

“… ثـم قدم حسان واليا على الـمغرب …فمضى في جيش كبير حتى نزل طرابلس واجتمع إليه من كان خرج من إفريقية وطرابلس، فوجه على مقدمته محمد بن أبي بكير وهلال بن ثروان اللواتي …”

بل حتى قبل ذلك نـجد إبن الأثير يشير إلى وجود الأمازيغ ضمن جيش عقبة عندما يقول :

“… فدخل  عقبة  وانضاف إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه …”

ونـجد أن من بين القبائل التي كانت مع عقبة أثناء بنائه القيروان لواتة وهوارة ونفوسة ونفزاوة ومغراوة، هذا سنة ستة وأربعين للهجرة ـ، وما يـجمع هذه القبائل هو انتماؤها للحلف الطرابلسي الـمزاقي بتعبير الفترة البيزنطية.

من جانب آخر نـجد تـحالف البيزنطيين والـمملكتين الوسطى والغربية مازال قائما أيضا، فآكسل حسب إبن خلدون أمير على أوربة وسائر البرانس ومـجالهم من الأوراس إلى ما وراء تلمسان، وهذا يذكرنا بالأمير بيداس الذي انصرف إلى منطقة موريطانيا بعد فشل ثورته الأولى ليستعيد قوته ويعود ثانية، وهذا يفهم منه وجود علاقة ما، وذايا – ذيهيا ( الـمملكة الوسطى ) حسب الواقدي على علاقة وطيدة بـجارها الغربي عندما يقول :

“…أظهرت الكاهنة غضبها لـمقتل كسيلة …”

وفي حملة عقبة بن نافع التي قتل فيها نـجد أن آكسل قد جمع جيشا مكونا من الأمازيغ والبيزنطيين وهاجم عقبة عند تـهودة، وهذا مـحل اتفاق بين الـمؤرخين، فعقبة خرج إلى السوس، واستخلف على القيروان عمر بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي في ستة آلاف من الـجند، ولـما انتهى من غزوته وعاد راجعا أخذ على تـهودة جنوبي الأوراس، فيخبرنا ابن خلدون وابن عذارى أن آكسل هاجمه بـجيش مكون من البرانس والبيزنطيين، في حين أن إبن عبد الـحكم يقول :

“… فعرض له كسيلة في جـمع كثير من الروم والبربر …”

وليس البرانس فقط،  حسب إبن خلدون فقد كان لذايا – ذيهيا (الكاهنة) يد في موقعة تـهودة عندما يرد عنده :

“… وكان قتل عقبة في البسيط قبلة جبل أوراس بإغرائها برابرة تـهودة عليه، وكان الـمسلمون يعرفون ذلك منها …”

أما إبن عبد الـحكم فيخبرنا بالتالي:

“… وخرج إبن الكاهنة البربري على أثر عقبة كلما رحل عقبة من منهل دفنه إبن الكاهنة، فلم يزل كذلك حتى انتهى عقبة إلى السوس …”

رغم أن الـمبالغة واضحة في هذه الرواية التي تـجعل إبن الكاهنة متعقبا لعقبة إلى غاية السوس لكنها قد تفيد بـحركة ما قام بها الـمسمى إبن ذايا – ذيهيا بردم بعض الآبار في طريق عقبة، وهذا تصرف معروف وسط القبائل الأمازيغية، وقد ظل معمولا به إلى غاية الفترة الفرنسية حيث يـحدثنا الفرنسيون عن ردم الآبار أو إلقاء جيف الـحيوانات فيها لـحرمان الـجيش الـمعادي من الشرب، لكن هناك رواية أخرى تصور لنا حلفا قائم الأركان بدون الـحاجة إلى التأويل، فإبن عبد الـحكم يقول :

“…كانت إفريقية يومها تدعى مزاق، فتقدم عقبة إلى السوس، وخالفه رجل من العجم في ثلاثين ألفا إلى عمر بن علي وزهير بن قيس وهما في ستة آلاف …”

ولا يلبث إبن عبد الـحكم حتى يكشف لنا عن هوية الرجل الأعجمي عندما يورد :

“… ثم زحف إبن الكاهنة يريد عمر بن علي وزهير بن قيس فقاتلاه قتالا شديدا، فهزم إبن الكاهنة وقتل أصحابه وخرج عمر بن علي وزهير بن قيس إلى مصر بالـجيش لاجتماع ملأ البربر، وأقام ضعفاء أصحابهما ومن كان خرج معهما من موالي إفريقيا بطرابلس …”

هنا تتضح تماما معالم الـحلفين الـمتصارعين، حيث أن عقبة ينطلق من أرض حلفائه بالـمزاق ويـخلف على القيروان زهير بن قيس وعمر بن علي في ستة آلاف من بينهم الـموالي الذين قدموا من طرابلس، وآكسل يستنفر البيزنطيين ويكمن لعقبة وذايا – ذيهيا تـحرض أمازيغ تـهودة لإعانة آكسل على عقبة بعد أن قام إبنها بتغوير الآبار في طريق عقبة وهو تصرف عدائي، وبعدها ترسل إبنها في ثلاثين ألف مقاتل لقتال عمر بن علي وزهير بن قيس في القيروان، ورغم أن إبن عبد الـحكم يقول أن إبن ذايا – ذيهيا انـهزم إلا أن ما أورده يثبت أنه لـم ينهزم بل انتصر وهو ما حمل عمر بن علي وزهير بن قيس على مغادرة القيروان باتـجاه مصر تاركين حلفاءهم الطرابلسيين وضعفاء الـمسلمين في القيروان، وإلا كيف نفسر مغادرة القيروان بـهذه الطريقة وهذه السرعة؟

يظهر أن عقبة قد تناهى إلى مسامعه خبر مهاجمة القيروان فسارع لإرسال معظم جيشه لاستنقاذها، وبقي هو في قلة من الـجيش يـحملون الأثقال وغنائم السوس، وهنا هاجمه آكسل وأباد جيشه، وعندما نتتبع جيدا مسار هذا التحرك وتطور الأحداث نـجد أنه قد تـم التخطيط له جيدا، فالزمخشري يقول بأن الروم قد أبلغوا آكسل بـمكان عقبة، وعليه يـمكن أن نفترض أن إبن ذايا – ذيهيا هاجم القيروان وسـمح للخبر أن يبلغ عقبة، وهنا تتضح الصورة جيدا، فذايا – ذيهيا أرسلت إبنها في جيش كبير مكون من ثلاثين ألفا فهاجم القيروان لتشغل عمر بن علي وزهير بن قيس وحلفائهما عن أي تـحرك عسكري، وسـمح إبنها للخبر بالوصول إلى عقبة لتشتيت قوته، في حين أن آكسل جمع مقاتليه ومقاتلي حلفائه البيزنطيين ليقطع الطريق على عقبة، وبالتزامن قامت ذايا – ذيهيا بتحريض أمازيغ تـهودة على مساعدة آكسل ضد عقبة، والنتيجة تشتيت الـجيوش العربية وحلفائها ومنعها من أي تـحرك على أي جبهة كانت، وسلبها القدرة على الـمقاومة أو رد الفعل، وهو ما انتهى بإبادة الـجيش وقتل عقبة، وخروج العرب من القيروان مع بقاء القبائل الطرابلسية حول الـمنطقة، وهنا يتحرك آكسل من تـهودة إلى القيروان ويقوم بـحملة مطاردة لتلك القبائل كما يقول إبن عبد الـحكم:

“… ثم سار كسيلة ومن معه حتى نزلوا الـموضع الذي كان عقبة اخطته فأقام به وقهر من قرب من باب ڤابس وجعل يبعث أصحابه في كل وجه …”

وانتهى الأمر بأن حكم آكسل الـمنطقة كلها كما تشير الـمصادر دون أن يـمس من بقي بالقيروان من الـمسلمين بأي أذى فهذا الرقيق القيرواني في تاريخ إفريقية والـمغرب يقول :

“…فأرسلوا إلى كسيلة يسألونه الأمان فأجابهم…”

وحتى عندما بلغه خروج زهير بن قيس البلوي لقتاله يذكر الرقيق أيضا :

“…وبلغ كسيلة بن ليوم الأوربي قدوم زهير عليه … وقال لهم: إني أردت أن أرحل إلى مـمس فأنزلـها، فإن هذه الـمدينة فيها خلق عظيم من الـمسلمين ولـهم علينا عهد فلا نغدر بهم، ونـحن نـخاف إذا التحم القتال أن يثبوا علينا …”

قُتل آكسل في موقعة مـمس، وانصرف زهير بن قيس قافلا إلى برقة فقتله جنود من الأسطول الروماني، فولى عبد الـملك بن مروان حسان بن النعمان الغساني، وكلفه بالثأر لزهير وهو ما كان فعلا حيث أن حسان كما تشير الـمصادر استفاد من مقاتلين جدد من موالي طرابلس، ثم توجه إلى قرطاجة ثم إلى بونة ومنها إلى قرطاجة ثانية حيث هزم البيزنطيين وحلفائهم من الأمازيغ وهدم الـمدينة كلية، ثم سأل عن من بقي من ملوك إفريقية وهنا تظهر اذايا – ذيهيا على أنـها القوة الوحيدة المتبقية من الـحلف إذ تتفق المصادر على عبارة الرقيق القيرواني:

“… فدلوه على امرأة بـجبل أوراس يقال لـها الكاهنة، وجـميع من بإفريقية منها خائفون، والبربر لـها مطيعون، وإن قتلتها يئس البربر والروم بعدها أن يكون لهم ملجأ …”

وفكرة أن ييأس الأمازيغ والبيزنطيين من أن يكون لـهم ملجأ بعدها تدل بقوة على أنـها آخر من بقي من الـحلف الأمازيغي-البيزنطي، بل إن إبن خلدون يـجعل الزحف إلى ذايا – ذيهيا مرتبطا بـمقتل آكسل فنجد عنده :

“… فلما انقضى جـمع البربر وقُتل كسيلة زحفوا إلى هذه الكاهنة بـمعتصمها من جبل أوراس …”

أما إبن عذارى فيورد عبارة:

“… إن قتلتها دان لك الـمغرب كله ولـم يبق لك مضاد ولا معاند…”

وهذا يعني أيضا أنـها بلغت درجة أن تزعمت الـحلف وصارت تـمثل خطرا حقيقيا على سير الـجيوش العربية، ويورد إبن عبد الـحكم نصا آخر يدل على أن ذايا – ذيهيا بعد مقتل آكسل آلت إليها الزعامة التامة على الـمنطقة كلها عندما يقول:

“…وغزا “حسان” الكاهنة وهي إذاك ملكة البربر وقد غلبت على جل إفريقية …”

أما إبن الأثير فهو أكثر وضوحا عندما يقول:

“… وكانت “الكاهنة”بربرية وهي بـجبل أوراس وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيلة، فسأل “حسان”أهل إفريقية عنها فعظموا مـحلها …”

هنا تتضح لدينا الصورة عن ملكة تسيطر على منطقة واسعة ويدين لها عدد كبير من الأمازيغ والبيزنطيين بالولاء وليس لهم بعدها حصن يلجؤون إليه، وهي قادرة على تـجييش أعداد كبيرة من المقاتلين و الناس يعظمون محلها، و هكذا نكون بصدد ملكة محترمة محنكة تتزعم حلفا قويا و تتمتع بسمعة كبيرة وسط الأفارقة.

أراح حسان بالقيروان أياما كما يقول إبن عذاري، ثم اتـجه غربا قاصدا جبال أوراس، ولاحظت ذايا – ذيهيا تقدمه على أعتاب الـمنطقة حيث يذكر القيرواني:

“… وبلغ الكاهنة أمره فرحلت من الـجبل بعدد لا يـحصى فسبقته إلى مدينة باغاية وأخرجت منها الروم وهدمت حصنها وظنت أن حسان إنـما يريد أن يتحصن فيه، وأقبل حسان حين بلغه الـخبر فنزل وادي مسكيانة … ورجعت الكاهنة إليه تريده وخرج حسان حتى خرج بين الفج والشعراء ونزل على النهر الذي يسمى بلسان البربر بلى، ورحلت الكاهنة حتى نزلت على هذا النهر، وكان هو يشرب من أعلى النهر وهي تشرب من أسفله …”

إن هذه الفقرة تـحدد جيدا نقطتين مهمتين:

الأولى أن حسان لـما خرج من القيروان وتقدم بلغ ذايا – ذيهيا (الكاهنة) خبره وسارت بالـموازاة معه في نفس الاتجاه جنوبا حتى سبقته إلى مدينة باغاي اليوم قرب خنشلا، ولم يكن حسان يبعد عنها لأنه بلغه خبر هدمها حصن باغاي فعرج باتـجاه الـجنوب حتى نزل مسكيانا ثم تقدم جنوبا إلى غاية واد نيني فكان يشرب أعلاه ( أي شـمالا ) وذايا – ذيهيا تشرب أسفله ( أي جنوبا )، وعليه فإن حسان أثناء دخوله منطقة الأوراس اخترق سهل ثيفست (تبسّا) الـمكشوف فلاحظته ذايا – ذيهيا من منطقة تازبنت جنوب غرب ثيفست (تبسّا) من الـمنطقة التي مازالت معروفة بـ ” برج الكاهنة ” وهي منطقة مرتفعة وبإمكان الواقف عليها رؤية ثيفست (تبسّا) ومرسط إلى غاية قلعة سنان، وكان يوجد بها برج مراقبة مرتفع مبني بالـحجر الـجيري سقط مؤخرا. عندما جاوز حسان ثيفست (تبسّا) جعل مرتفعات الدير على يـمينه قاطعا مرتفعات حلوفة حتى وصل إلى مسكيانا، أما ذايا – ذيهيا فقد رحلت قاطعة جبل تروبيا فجبل سردياس ثم جبل ڤريڤر الذي تقود سفوحه الـجنوبية مباشرة إلى منطقة باغاي، فهدمت الـحصن وليس بين باغاي وموضع حسان سوى جبل ڤريڤر الذي لا يبقى منه غربا سوى فجاج تؤدي إلى سهول الضلعة ومسكيانا ما جعل الـخبر يصله سريعا فتوجه جنوبا وعسكر شـمال الوادي، وكان ذلك على أميال قليلة من باغاي فاتجهت إليه ذايا – ذيهيا وعسكرت عند الوادي جنوبا.

أما النقطة الثانية التي نستفيد منها فهي أن كل النصوص تشير بأنـها أخرجت البيزنطيين من حصن باغاي ثم هدمته، والسرعة والسلاسة التي تـم بـها الأمر تدلان على أن خروج البيزنطيين قد تم دون قتال، وهو ما يعني انصياع البيزنطيين لأمر الـهدم، فهم يقبلون إخراج ذايا – ذيهيا إياهم وهدم الـحصن دون أي اعتراض، وهذا يـحيلنا مـجددا إلى تزعم ذايا – ذيهيا للحلف الأمازيغي-البيزنطي، ولا أستبعد أن تلك الحامية قاتلت إلى جانب ذايا – ذيهيا وإن كانت الـمصادر لا تذكر ذلك.

وصلت ذايا – ذيهيا النهر مساءًا فبات الفريقان ليلتهم على سروجهم على تعبير إبن عذارى، أما الرقيق القيرواني فيقول :

“… أبى  “حسان” أن يقاتلها إلا أول النهار…”

فكل الروايات تـجمع على أن الـجيشين باتا على مصافهما إلى الصباح، ومن الغد وقعت الـمعركة واشتد القتال،

“… وكثر البلاء وظن الناس أنه الفناء…”

وكانت هزيـمة ساحقة لـحسان الذي تقول بعض الـمصادر أنه لـما هاله القتل نفذ إلى أنطابلس، لكن من الـجمع بين ما ورد في الـمصادر نـجد أن حسان اِنهزم إلى غاية ڤابس في تونس قرب القيروان، وهناك أدركته ذايا – ذيهيا ووقعت معركة أخرى، قال بـهذا البكري والرقيق القيرواني وإبن عذاري وإبن خلدون وإبن أبي دينار والبلاذري وغيرهم، بل إن البكري يذهب أبعد من هذا عندما يورد الفقرة التالية:

“… لقي “حسان” عساكر الكاهنة بأرض ڤابس وعلى مقدمتها القائد الذي كان مع كسيلة بن لـمزم فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل صاحب خيل حسان، وانهزم حسان وأصحابه إلى الـمنهل الـمعروف بقصور حسان…”

وقد كانت ذايا – ذيهيا تطارد حسان في جموع عظيمة نستشف ذلك من الرسالة التي أرسلها حسان إلى عبد الـملك بن مروان إذ يرد فيها :

“… إن أمم الـمغرب ليس لـها غاية ولا يقف أحد منها على نـهاية، كلما بادت أمة خلفتها أمم، وهم من الـحفل والكثرة كسائمة النعم…”

وهذا يقتضي وجود حلف فجراوة وحدها لا يـمكن أن يـخرج منها هذا العدد مهما بلغت، كما أن أصداء الـحلف مازالت تصلنا من خلال إشارة إبن الأثير الذي يقول أن البربر قد اجتمعوا حولـها بعد قتل آكسل ، كما أن إبن خلدون يشير إلى أنه اجتمع إليها بنو يفرن وسائر البتر، ويظهر أثناء الـمطاردة أن قائدا في جيش آكسل كان معها وهنا نكون أمام تـحالف حقيقي لا يسقط بسقوط زعمائه (آكسل – ذايا – البيزنطيين ) مقابل حلف آخر ( الـمزاق – القبائل الطرابلسية – العرب ) وهي صورة ثابتة في التحالفات الـمورية في الفترة البيزنطية أيضا حيث أن التحالفات لا تنتهي بـموت زعيمها، فهي تظهر بنفس التشكيلة مع أول زعيم جديد يظهر وذلك ما نلاحظه عندما قُتل يارنا فإن كركاسن لـم يـحتج إلى إعادة تشكيل حلف جديد بل خرج مباشرة وحاصر قرطاج، وهو نفس الأمر هنا حيث أن مقتل جرجير لـم يفت في عضد الـحلف واستمر مع آكسل، وإن مر بفترة عابرة تـحالف فيها الأخير مع أبي الـمهاجر دينار، لكنه عاد إلى مكانه الطبيعي بعد قدوم عقبة، مثلما فعل صولات ملك منطقة الـمزاق لـما حالف جرجير لكنه في الأخير اختار حلف القبائل الطرابلسية ( لواتة، هوارة، نفوسة ) حيث مكانه الطبيعي.

حكمت ذايا – ذيهيا إفريقية كلها خـمس سنوات، وظلت هناك إشارات على مناوشات بينها وبين بعض قبائل البربر، لأن أهل طرابلس وقبائل نفزاوة يشتكون سوء معاملة ذايا – ذيهيا لـهم لـحسان بعد خـمس سنوات من غيابه، ونفزاوة من قبائل منطقة الـمزاق وهنا نفهم أن الـمناوشات ظلت قائمة بين الـحلف الغربي والـحلف الـمزاقي الطرابلسي حتى أرسل عبد الـملك بالـمدد إلى حسان بن النعمان، لكن الـمصادر تـحاول إضفاء لـمسة إجرامية عندما تـجعل ذايا – ذيهيا أحرقت كل إفريقيا من طنجة إلى طرابلس وهدمت مدائنها وغير ذلك من الصور التي نجدها بكثرة في الكتب، لكن الذي أعتقده أن ذايا – ذيهيا إن مارست هذا الأسلوب فقد مارسته فقط في الناحية الشرقية وبصورة مـحدودة، فيمكن أن يكون ذلك عقوبة للحلف الشرقي على انضمامه للعرب، ويـمكن أنها لـم تـمارس ذلك إلا لـما بلغها تـحرك حسان من برقة قاصدا إفريقية فقامة بتغوير الآبار وحرق الـمزارع وإخلاء الـمدن الواقعة في طريقه لـمنعه من الطعام والشراب والتحصن كما فعلت بـحصن باغاي، أما أن تكون قد أحرقت كل شـمال إفريقيا من طرابلس إلى طنجة فهذا غير معقول، والقارئ لـحملة موسى بن نصير بعد مدة من قتل ذايا – ذيهيا يـجد أن موسى يفتح مدنا مـحصنة، ويغنم غنائم كثيرة، ويفرض الـجزيات الوافرة، ويـمر بـمدن ذوات أنـهار وحصون وأموال ومزارع، فإن كانت ذايا – ذيهيا أحرقت البلاد فكيف يـجد موسى بن نصير ما تـحكي عنه الـمصادر؟ ويكفي مثلا أن نقرأ فتح سجومة أيام موسى لنعرف حقيقة الأمر، وحتى قبل ذلك فحسان بن النعمان نفسه غنم في حملته الثانية بعد قتل ذايا – ذيهيا غنائم عظيمة فأين ذلك من الدمار والأرض الـمحروقة، وهذا إبن عذاري يـحدثنا عن عودة حسان من غزوته فيقول :

“… فلما قدم “حسان”على أمير مصر عبد العزيز أهداه مئتي جارية من بنات ملوك الروم و البربر، فسلبه عبد العزيز جميع ما كان معه من الـخيل والأحمال والأمتعة والوصائف والوصفان، ورحل حسان بالأثقال التي بقيت له حتى قدم على الوليد … ثم قال حسان لـمن معه: ائتوني بقرب الـماء، ففرغ منها من الذهب والفضة والـجوهر والياقوت ما استعظمه الوليد، وعجب من أمر حسان …”

فهل يدل هذا على بلاد منكوبة وأرض مـحروقة لم يبق منها شيء؟

بعد خـمس سنوات من الـمقام ببرقة وصلت الإمدادات إلى حسان بن النعمان، وسار معه موالي طرابلس  وقبط أهل مصر، والتقى مع ذايا – ذيهيا جنوبي الأوراس بـمنطقة بئر العاتر اليوم، وتـمكن هذه الـمرة من قتلها وإرسال رأسها إلى عبد الـملك بن مروان، وبـموت ذايا – ذيهيا توضع اللمسات الأخيرة لنهاية الـحلف الغربي كما نـجد عند إبن خلدون:

“… واقتحم “حسان”جبل أوراس عنوة واستلحم فيه مئة ألف…”

أما إبن عذاري فيضيف :

“… وكان مع حسان جماعة من البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من قبائلهم إثني عشر ألفا يـجاهدون مع العرب فأجابوه وأسلموا على يديه…”

وهكذا تـم تشتيت جنود هذا الـحلف ودفعهم للقتال خارج أراضيهم، ثم العبور بـهم إلى الأندلس فانشغلوا بذلك، وهكذا أسدل الستار على أحد أقوى التحالفات في تاريخ شـمال إفريقيا.

من كل ما تقدم نستنتج أن الـمعارك والـحروب التي اعترضت سير التوغل العربي في شـمال إفريقيا لم تكن إرتـجالية من قبائل طال الغزو أراضيها، بل كانت حركة سياسية وعسكرية على جانب كبير من التنظيم والتراتبية وهي استمرارية لعلاقة السلطة البيزنطية بالـممالك الـمورية، وهذا ينفي الصورة الفوضوية التي ترسـمها بعض الـمصادر، ويرسخ الصراع الـمرير بين ما أسـميه الـحلف الشرقي والـحلف الغربي في شـمال إفريقيا.

جفّالي نجم الدّين – ثيفيست (تبسّا)