حرّاس معبد الشرعية الثورية ووهم الحكم عند إيشاويّن

لأكثر من نصف قرن من الزّمن، انتهجت المنظومة الحاكمة في “دزاير” بديناميكية وصرامة مجموعة ممارسات مدروسة لتحكّم أفضل وأكثر فاعلية في مختلف متغيّرات الساحة الوطنية الدزيرية، بما فيها الشعب، ونجحت أيّما نجاح في تطبيق عدد من النماذج ما بعد الثورية post-revolutionary models التي يمكن رصدها بوضوح في حالة مصر الضباط الأحرار، وكوبا، وعراق وسوريا حزب البعث وليبيا القذافي، وغيرها من الدول التي اشتركت في حقبة زمنية ما في تبنيها المبكر للمنهج “الثوري” الاشتراكي.

من بين أبرز النماذج ما بعد الثورية التي نجحت المنظومة الحاكمة لدزاير في تطبيقها، نموذج: الشرعية.

بالمنظومة الحاكمة، أعني مجموعة الأفكار والقيم والمؤسسات والأفراد التي تسوس الدولة الـ”جزائرية” منذ نشأتها، وتستمرّ منذ أكثر من 54 سنة في تسييرها، وفق عقيدة هدفها الأوّل والأخير باستعمال نموذج “الشرعية” : مواصلة الثوّار بسط سيطرتهم عليها.

وإذا كانت منابع الشرعية في دول أخرى متنوّعة، فإنّها في حالة “دزاير” لا تخرج من دائرة “الثورة”. وهو الأمر المثير للسخرية حقيقة، فالـ”ثوّار” الذين كانوا شبابا عند اندلاع ثورة التحرير، سواءٌ أشاركوا حقّا فيها أم لم يشاركوا، يستمرّون إلى اليوم بعد أكثر من 60 سنة في فرض شرعيّتهم متخطّين بذلك على كلّ الأجيال التي أتت من بعدهمّ، وكانت أقدر على حكم البلاد، وأوضح رؤية في تسيير شؤونها.

الحكم للـ”شرعية” والوهم لمناصريها: نظرية/مسلّمة “حكم الشّاوية”

بحكم التاريخ والثقافة والجغرافيا كان لجهات “نصيب ثوري” أكبر من جهات أخرى في البلاد، وكان من المنطقي أن يكون لها “نصيب أكبر في الحكم” بمقتضى “تعاليم” الحاكمية “الثورية” التي أسست لها مجموعة “الثوار” الحاكمة، وكرّستها عبر مختلف المؤسسات والخطابات، حتّى أصبحت مسلّمة “وطنية” يهرطَقُ القائل بخلافها، تماما كما يكفَّرُ ويحاربُ القائل بخلاف توحيد الحاكمية عند التيارات الدينية.

ولأنّ للمنطقة التاريخية الأولى: “أوراس-نمامشة” أو ما يمكن أن يصطلح عليه اليوم ببلاد إيشاويّن نصيب الأسد، فعلا، في ملحمة النضال من أجل التحرر التي انطلقت منها، وتركّزت فيها، وكان لها خلالها مآثر لا يمكن لأحد إنكارها. فقد كان من المنطقي أن يكون لهم “نصيب أكبر في الحكم” (طبقا لمبدأ الشرعية) لكنّ الحقيقة غير ذلك.

إنّ الطبيعة جعلت من الوعي الجمعي الشّاوي استحواذيّا ودفاعيا وشرعانيا (legitimist) إذا ما تعلٌّق الأمر بالثورة وتاريخها وما انجرّ عنها، ساعد في ذلك، مجموع القناعات المتجسدة في عبارات السخط أو الثناء التي شاعت في بقية جهات البلاد، حول موضوع “ثورة الشاوية”. وبالتالي، وفق قاعدة الحاكمية، أو مبدأ “حكم الثّوار” ارتقت نظريّةٌ مفروضة ساهم في تكريسها الثوّار الحاكمون واللاواعون من إيشاويّن إلى مصاف المسلّمات، وأصبحت حقيقة أن بعد الثّورة: “إيشاويّن يحكمون البلاد”.

ليس من السّهل أن نفنّد نظرية “حكم الشاوية” في سطور، خاصّة أنّ إيشاويّن أنفسهم يقولون بها ويرفعون شعاراتها، بسبب طبيعتهم الشرعانية وغياب أدنى أشكال التحليل المبنية على دراية بالتاريخ أوّلا، وبمتغيّرات الساحة السياسية الدزيرية ثانيّا، بسبب غياب قادة رأي حقيقيين و”انعدام” نخب جهويّة تقود الحراك المجتمعي وتنصّل ما سمّي بـ”النخب الشاوية” حتّى لانتماءاتهم الثقافية الأصلية، وفاءً لعقيدة الوطن الواحد (والحزب والعرق الواحد واللغة الواحدة والمواطن الواحد النسخة طبق الأصل عن مواطنه في مصر) فكيف لهم أن يكونوا أوفياء لتاريخ منطقتهم، أو أذكياء بالقدر الكافي، فينوّروا المنطق الجهويَّ لأبنائها، ويحيّدوا عنه العنصرية والشرعية ومعها ما كرّس في أذهانهم من وهم الحكم.

وإنْ كانت أساسات نظرية بدأت اليوم تتزعزع، بتسليط الضوء دوريّا على وقائع تجاذب القوى وتنحية القيادات التي كانت محور السنوات الأخيرة من الثورة، وتعرّضت لها بشكل أساسي، المنطقة التاريخية الأولى وقياداتها، ومن كان له ولاء لهم، في مناطق أخرى. وهذا ما يعاب، للأسف، على المختصّين بتاريخ المنطقة في تلك المرحلة الذين تحصى إنتاجاتهم وأسماؤهم ونشاطاتهم في هذا “الموضوع” على أصابع اليدين.

وحتّى إذا قبلنا جدلًا أنّ إيشاويّن حكموا؛ بدءا ببومدين، الّذي أشيع خطأ بأنه شاوي (رغم أنّه لم يكن شاويّ العرق ولا الانتماء، ولا الولاء للمنطقة التاريخية الأولى التي كان أحد الفاعلين في عملية تحييد قياداتها) وانتهاءً بخرافة BTS (مثلث باتنة-تبسة-سوق أهراس الحاكم) التي لا يزال البعض، إلى اليوم يروّج لها، رغم وضوح المشهد، وثبوت سيطرة “محفل وجدة” على الحكم منذ بومدين. حتّى إذا قبلنا بهذا جدلًا، فالتساؤل يطرح نفسه:

إذا كان إيشاويّن من حكم هذه البلاد لعقود، لماذا تعاني بلادهم من وضعية اقتصادية وتنموية مزرية منذ الاستقلال، وحتّى اليوم؟

نظرية “حكم الشاوية” هذه، ليست فقط نظرة أو وجهة نظر تبنّاها مواطنونا في مختلف جهات البلاد، وانبنى عليها عندهم ما انبنى من قناعات، بل إنّها تحوّلت إلى شطر إيماني في عقيدة “إيشاويّن” ذاتهم، ليتحوّلوا بعد عقود من غسيل المخ، في ظلّ غياب قادة رأي حقيقيين (و”انعدام” نخب جهويّة تقود الحراك المجتمعي وتنصّل ما سمّي بـ”النخب الشاوية”)، تحوّلوا إلى حرّاس معبد الوطنية والشرعية الثورية مجّانا، دون أيّ مقابل. فوضعيّة المنطقة المعروفة بوطنيّتها وتفانيها في الدّفاع عن هذا الوطن ودورها الرائد خلال ثورة التحرير (التي يلتصق بها الحكم) مزرية على جميع الأصعدة، وكان الوضع ليكون أقلّ سوءا في المنطقة لو تلقي إيشاويّن “ثمن” مناصرتهم لهذه الشّرعية.

وليس ببعيد عنّا ولا بغامض، مثال مساندة الكثيرين من إيشاويّن لبوتفليقة، الّذي حيّد أكثر من 57 ضابطا ساميا من منطقة إيشاويّن عشيّة تربّعه على كرسي حكم البلاد، فقط ليخلفهم بكوطة ضبّاط سامين من غرب البلاد، تدعيما لشلّته، ومع ذلك فإنّ إيشاويّن دعما لشرعية “منصبه” (المستمدّة من الثورة التي هم حماتها) دعموه ويدعمونه حتّى بعد حادثة “حاشا رزق ربي”.

السياق الجهوي: البديل الّذي لا يزال أعرجا

وإنْ كان الوضع قابلا للتّغيير بفعل حراكٍ شبابيّ قد ينتج مستقبلا نخبا جهويّة حقيقية، واعية، ومثقّفة، إلّا أنّ المسألة المعرفيّة، وبالتالي الوعي السياسي والإنساني، في سياقها الجهوي تطرح نفسها بقوة.

صحيح بالمرّة أنّ السياق الوطنيّ ثم الإقليمي ثم العالمي والإنسانيّ يُصوَّرُ على أنّه أكثر منطقيّة وأحقيّة وشرعيّة من “السياق الجهويّ” الذي أحيل بفعل “مريديه” إلى حلبة مصارعة قبلية وعرقية، وتبنّاه بعد ذلك، كما هو، كثير جدّا من الفاعلين في الحراك “الآمازيغي” ببلاد إيشاويّن فوقعوا بالتالي في فخ المحدودية واللافعالية السياسية.

لا يمكننا أن نخفي الدّور السلبيّ الذي لعبته بعض الأفكار ودعّمه بعض الأفراد المنتمين للحراك الأمازيغي في بلاد إيشاويّن، والّذي روّج للعرقية والقبلي داخليّا وخارجيّا وأحال الكيان الثقافي في إطاره الجيوإثني “الشّاوي” إلى سياق قبلي أشبه بقبائل الهنود الحمر (Indianised tribal context) وشارف بعضهم على المطالبة بإحاطة حدودها بالأسلاك الشائكة وإعلانها “محميّة طبيعية” والسماح بتطبيق الأحكام “العرفية” (التقليدية) ومنع اللباس العصري والكهرباء والماء فيها وفاء لتقاليد “الأجداد”… وصحيح بالمرّة أن الحراك الأمازيغي يمارس أحيانا “ككيانٍ وككلّ” نفس مبدأ الشرعية التي يمارسها الثوار الحاكمون للبلاد، ويفرض نفسه كبديل وحيد في صورته وصيغته وسياقه الحاليّ، رغم أنّه أثبت أكثر من مرّة عدم فعاليّته في صورته هذه وضرورة استبداله.

ليس هذا بطعن في نضالاته المستميتة التي كانت في ظروف استحال على غيره من الكيانات أن يخرج إلى الشّارع بينما نشط وجابه كلّا من النظام المركزي والجبهة الظلامية على حدّ سواء، ولكنّها محاولة للنظر إلى الشأن الجهوي الشّاوي بعين أكثر عقلانية وبراغماتية وأوسع أفقا.

فالطرح “الجهويّ” دون وعي سياسي كافٍ وزاد معرفيّ ورؤية شاملة وسياق عالمي، يبقى مجرّد بديل أعرج لا يقل سوءًا عن النموذج الما بعد ثوري الّذي نعاني وطأته اليوم، في دزاير عامة وفي بلاد إيشاويّن خاصّة بل إنّه أسوء، فهو طرح شعبويّ غير مؤسس ولا امتدادات له لضيق أفق أصحابه وعدم اطّلاعهم.

إنّ الحراك الشبابي القادم، لا يجب أن يكون، في رأيي، ذا ارتباط بما أنتج الحراك الآمازيغي من أفكار، فارتباطهما على مستوى الأفكار يعني التأثر بالضرورة، وهو ما يمنع اليوم، بصراحة، خروج حراك جديد فعّال إلى النور. حراك يدرك أن الشرعية “الثورة” وما كرّس معها من وهم الحكم، والشرعية “الآمازيغية” وما كرّس معها من جمود وردعية هي أحد أوّل أسباب غياب ثقافة المطالبة عن المشهد الشّاوي الّذي سيساند النظام الحاكم، أيّا كان رأسه، ومهما كان حقده عليهم فقط لأنّه يمثّل الشرعية الثورية التي هم حرّاس معبدها، كمثال بوتفليقة.

(يتبع…)