“سيرتا أمازيغية منذ نشأتها يا سعدي وأتباعه !”

كتب رونان في مقاله عن الرجل القبائلي قائلا:” إنّ الرجل القبائلي ليس فنيقيا ولا رومانيا ، بل هو نوميدي أصيل سليل شعب ماسنيسا وسيفاكس ويوغرطا”، فأيت منقلات وإيدير من طينة هؤلاء الملوك يا أستاذ السعدي، فالجزائر العربية التي صنعتموها بتحايلكم على التاريخ، فهي في حقيقة الأمر تدعى ” دزاير ناث مزغنة” نسبة إلى مؤسسها الملك بولوغين بن دزيري الصنهاجي الأمازيغي …عهود طويلة وأنتم تعربون هذه البلاد دون أي ضمير إنساني ولا أي احترام للاختلاف الذي هو رحمة من الله تعالى الذي قال:” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” ولم يقل ليذوب كل شعب في ثقافة شعب آخر كما تروجون لذلك.

الغريب في الأمر أنكم تقولون إنّ الجزائر عربية الأصول والهوية وحجتكم في ذلك أن الأمازيغ هم عرب وهي رواية بالية أكل الزمن عنها وشرب بعد أن أدحضها شيخ المؤرخين العلامة ابن خلدون والتي سأعود إليها في هذا الرد.

أما قضية أيت منقلات الذي رفع شعار “أنا شارلي إيبدو” ، فأنا أقول إن فعلها فقد صدق ، لأنّ هذا الحكيم علّم لنا أن المحبة والأخوة والتآزر من أركان الحياة، ولم يبرئ القتلة الذين صنعهم الفكر العروبي والإسلاماوي الرديئ ، ولم يكن هذا الحكيم ضدّ مبادئ الإسلام السمحة بل هو ابن منطقة تعجًّ بالزوايا والأولياء الذين خدموا الإسلام والمسلمين.

بالنسبة لموقفه بعدم المشاركة في زردتكم قسنطينة عاصمة الثقافة العربية !رفقة أخيه في النضال الموسيقار العالمي إيدير ، فهذا فخر ومكسب لقضيتنا وذلك لوعيهما بأصول وهوية هذا البلد بصفة عامة ومدينة سيرتا عاصمة الإغليذ ماسنسن بصفة خاصة، نعم…؟ لا يقبل كل أمازيغي حر هذه المهزلة التاريخية التي صنعتموها. لماذا…؟ سأقول…؟

كتب الأستاذ السعدي بأنّ مدينة سيرتا ذات أصل عربي- كنعاني منذ نشأتها، مستندا في ذلك إلى اسم أطلقه هو على المدينة وهو “قيرطا” ونحن نقرأ في المسكوكة(العملة) التي ضربت في المدينة نفسها اسم آخر وهو “كرطن K.R.T.N” (01) والذي هواســم أمازيغي ينتهي باللاحقة البربرية “ن” شأنه شأن أسماء الملوك كمسنسن ومكوسن وغلسن ، وقد دعّم الأستاذ السعدي إجابته بأبحاث الدكتور غانم محمد الصغير في كتابه “معالم التواجد البوني في الجزائر” ونفس المؤرخ يقرّ في كتاب آخر صدر له مؤخرا وهو ” سيرتا النوميدية ولم يقل البونية !؟ ، حيث يقول في صفحته (64) مايلي:” إنّ اسم سيرتا محلي نوميدي”، في حين يطرح المؤرخ الدكتور العربي عقون قضية مهمة جدا فيما يخص أصول أسماء المدن النوميدية حيث يقول:”يبدو للظاهر أن أسماء المدن النوميدية هي فينيقية (بونية) انطلاقا من تسميتها وهذا حسب مؤرخي النزعة السامية (العربية)، إلاّ أن الخلل يعود في الأصل إلى الترجمة الأغريقية، فالإغريق يأخذون الترجمة البونية للاسم الليبي (الأمازيغي) وهذه باقية إلى الآن…”(02) ، ومما يثبت هذا الطرح ما سأعرج عليه من خلال هذه النقاط التالية:

• إنّ جلّ المدن الأمازيغية في القديم كانت تسيّر وفق نظام قديم يتمثل في مجلس للأعيان يترأسه شفطين أو ثلاثة (القضاة) ومن أهمها : سيرتا وتيفست وكالما ودوقا ، ولعلّ هذه الأخيرة أحسن مثال على ذلك حيث ورد في نقشها الأثري المزدوج اللغة أن المدينة كان يسيّرها مجلس يرأسه شفطين (قاضيين) وكان أحدهما جدّ ملكنا ماسنسن وهو القاضي أوزلسن(03) ، والجدير بالذكر أن هذا التنظيم المحلي القديم لا يزال إلى الآن في عروش وقرى منطقة القبائل والذي يُعرف بنظام ” تاجماعث” (الجماعة) الديمقراطي الذي يسيره رجال عُرفوا بالسداد في الرأي والحكمة والعدل. بينما الكنعانيون كانوا ملوكا ارستقراطيين سواء في وطنهم الأم أو في المغرب القديم وبعد تعرفهم على الحضارة الأمازيغية ،اقتبسوا من الأمازيغ هذا النظام الديمقراطي .

• أكدّ الأستاذ السعدي أنّ المدن الساحلية في شمال إفريقيا هي من تأسيس الفينيقيون، وهي مسألة لم يفصل في أمرها بعد، وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد العربي عقون: ” أنّ الفينقيون قد أسسوا أثناء رحلاتهم التجارية الباكرة مرافئ تجارية (Les comptoires commerciaux ) في سواحل شمال إفريقيا ، ولم يؤسسوا مدن(04) والتي كانت قبل مجيئهم بل احتكروها فقط لمدة زمنية طويلة (814 ق.م- 201 ق.م) تقريبا ، ولكن سرعان ما عادت إلى أهلها بفضل ملوك نوميديا وعلى رأسهم ملكنا ماسنسن الذي استعاد حوالي 50 مدينة حسب المصادر،وفي نفس النقطة يِؤكد المؤرخ غابريال كامبس G.Camps » « أن في شمال إفريقيا مدن قديمة ، وذلك قبل عهد ماسنسن وهي محلية المنشأ ومن أهمها دوقا وتيفست وسيرتا(05).

بالنسبة للقضية التي أثرتها في البداية حول قضية الأصل العربي للأمازيغ المزعومة ، فالحق أنها مبنية على رواية بالية أكل الزمن عنها وشرب وأضحكت كبار المؤرخين كابن حزم وابن خلدون. ومفاد هذه الأسطورة فهي كما يقال عندنا بالقبائلية ” ماشاهو” (يحكى أنّ بالعربية):” يزعمون أنّ شخصا من بلاد اليمن يدعى إفريقش بن صيفي قد هاجر إلى شمال إفريقيا في زمن لا نعرفه؟ وعبر طريق لم نجد لها ذكر في المصادر التاريخية والمادية؟؟؟ وعندما وصل إلى بلاد تامزغا وجد فيها شعب يتكلم بلغة لم يفهمها، فقال لهم:” ما أكثر بربرتكم ” ولهذا سمّاهم بالبربر؟ أما إفريقيا فيزعمون أنّها تسمّت باسمه (إفريقش – إفريقيا).

وفقا لما ذكره العلامة ابن خلدون في إبطاله لهذه الخرافة قائلا:” إذ كان الأمازيغ ينتسبون إلى هذا الشخص، فنفس الرواية تقول أنّهم وجدهم بها؟؟؟(06) أما عن تسمية إفريقيا نسبة إلى هذا البطل الأسطوري، فهي أغرب من الغرابة ، فالدراسات التاريخية والاثنوغرافية تبطل هذا الطرح المزعوم ، فتسمية إفريقيا لم يثبت أصلها إلى الآن. فالأقرب إلى الصواب في هذه المسألة أن اسم إفريقيا جاء من اسم سكانها الذين يسكنون الكهوف والمغارات واسم هذه الأخيرة باللغة الأمازيغية القديمة ” إفري” التي تعني المغارة أو الكهف ( إفريقيا- إفري)، وتم بعد ذلك تعميم هذا الاسم على كامل القارة في فترات متلاحقة(07).

من جانب آخر تطرق الأستاذ السعدي إلى قضية تعليم القرطاجيين للأمازيغ تقنيات الزراعة وأساليبها ونحن نعرف تاريخيا أن الفنيقيين كانوا تجارا ولا علاقة لهم بالفلاحة لكون أرضهم جرداء عكس نظيرتها في مصر وبلاد الرافيدين ، ضف إلى ذلك فجّل الدراسات الأثرية تشهد بقدم الزراعة في بلاد الأمازيغ ولعلّ أبحاث الأستاذ كامبس (G.Camps) كافية والتي تؤكد استغلال الأمازيغيون للأرض منذ نهاية العصر الحجري الحديث (Néolithique) في كل من تبسة وسوق أهراس (08)وهذه الحقائق ذكرتها المصادر القديمة مثل هيرودوت وهي كلها قد أوردت أن الأمازيغ استغلوا الارض منذ عصور قديمة(09)، فعكس ما يقوله السعدي فالامازيغيون هم الذين علموا تقنيات الزراعة للقرطاجيين.

أما فيما يخص وصف السعدي لملكنا ماسنسن بالخائن والعمالة للرومان، فهذا يعبر عن فكر (عقلية) متخلف وظاهرة سلبية متجذرة في اوساطنا الاجتماعية ، وبلغ الامر إلى من نعتبرهم مثقفين ، فالمؤكد تاريخيا أن كلا الملكين سيفاكس وماسنسن رفعا شعار وحدة بلاد الأمازيغ (نوميديا) وتمكنا من تحقيقه تحت شعار ” نوميديا تحمل لواء الوحدة المغاربية”، وهذا العمل الوحدوي لم يدم طويلا نظرا للمتغيرات الدولية وظهور الامبريالية الرومانية الاستعمارية التي أضحت رياحا عاتية عملت على عرقلة عمل ملوك الأمازيغ.

تجدر الاشارة إلى أن ملكنا ماسنسن لم يكن يوما خائنا وعميلا لكونه هو الذي رفع شعار “إفريقيا للأفارقة” في وجه الارستقراطية القرطاجية (الفينيقية) والإمبريالية الرومانية على السواء ، بل أكثر من ذلك فملكنا عمل بمبدأ سياسي وهو عدو العدو صديق ، فقد تحالف مع قرطاجة وحارب إلى جانبها ضد الرومان في شبه الجزيرة الإيبيرية لولا هذه الأخيرة التي خانته وانتزعت حقوقه الشرعية في العرش الماسيلي وسلمته “لمازيتول” حليف الملك سيفاكس ولهذا قرر ملكنا اختيار الصف الروماني لمحاربتها وحليفها الجديد الملك سيفاكس وكل هذا من أجل أن تبقى الأرض لأبنائها الأمازيغ وقد حقق ذلك بتأسيسه للملكة النوميدية الموحدة ابتداءا من سنة 201ق.م.
ومجمل القول أن ملكنا ماسنسن يعتبر من المؤسسين الأوائل للدولة الوطنية في شمال إفريقيا ووضع تاج الملوك على رأسه لمدة فاقت نصف قرن من الزمن وكلها سلم ورخاء واقتصاد متطور ونفس الشيئ فعله إبنه الملك مكوسن(مسيبسا) لمدة ثلاثين سنة.
بالنسبة إلى قضية اللغة المستعملة من طرف الملوك النوميديين فهي البونية والليبية على حد سواء ولم تكن هذه الأخيرة لهجة شفوية كما يرى الأستاذ السعدي، فالاكتشافات الاثرية تبرز أن كلتا اللغتين قد كتبتا على النصب التذكارية والجنائزية في كل أنحاء بلاد المغرب القديم ، ولعلّ نقش مدينة دوقا (Dougga ) الأثري المزدوج اللغة(09) أحسن مثال على ذلك ، وقد ذكر الدكتور غانم أن عدد النقوش الليبية بلغ 1047نقشا(10) وهي موزعة في كامل انحاء بلاد تامزغا.

إنّ الذين اعتبروا أنفسهم رومان وقرطاجيين في ذلك العهد يتشابهون بهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم عرب في يومنا هذا ،في حين تبقى الأغلبية متمسكة بموروثها الحضاري ومعتزة بإنتمائها الأمازيغي. ونقول لأصحاب النظرية المشرقية كفى إدعاءات مغرضة وكلام فارغ لا يخدم الجزائر لا من بعيد ولا من قريب، فشعب نبش على ماضيه واعتزّ بانتمائه لا يعد جريمة أو كفر كما تُسوق إلى ذلك أفكاركم الإقصائية والخالية من كل صواب.


أ. تيغرمين المجيد
(*) رداً على مقال عثمان سعدي المنشور في جريدة الشروق  (2015/02/22), بعنوان :”قسنطينة عربية منذ نشأتها‮ ‬يا إيدير ويا آيت منڤلات‬” .

(1) (01) GSELL(S.), HISTOIRE ANCIENNE DE L’AFRIQUE DU NORD,T.V, PARIS
LIBRAIRIE HACHETTE 79, BOULEVARD SAINT-GERMAIN, P: 273
(02) عقون محمد العربي، الإقتصاد والمجتمع في الشمال الإفريقي القديم، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزاءر، 2008، ص
(03) غانم محمد الصغير، سيرتا النوميدية-النشأة والتطور- دار الهدى ، الجزائر،ص:75.
(04) عقون، نفس المرجع، ص: 43.
(05) كامبس ، في أصول بلاد البربر – ماسنيسا أو بديات التاريخ- ترجمة عقون محمد العربي،ص:314.
(06) ابن خلدون، العبر ، دار الفكر للنشر – لبنان:2000، ص127.
(07) حارش محمد الهادي، التاريخ المغاربي القديم،المؤسسة الجزائرية للطباعة، ص:25.
(08) كامبس، المرجع السابق، ص: 104.
(09) هيرودوت، ………..، ص:74.
(10) غانم، معالم التواجد الفينيقي البوني في الجزائر، دار الهدى للنشر، الجزائر2007، ص: 124.