مرافعة من أجل أن يستفيق الشاوي من “البنج النوفمبري”


لقد كانت بلاد إيشاوين  من أهم قلاع التمرد ضد الوجود الإستعماري الفرنسي . ففكرة إستقلال الجزائر ظهرت أول مرة أثناء ثورة 1916 بمنطقة بلّزمة ( باتنة) و هو تمرد بدأ بعين التوتة قبل أن تمتد ناره لتُلهب جميع مناطق الأوراس و أعقبه ظهور  مايسمى ب”لصوص الشرف” (Les bandits d’honneur) هؤلاء الثائرين الذين مهّدوا الطريق لرجال أول نوفمبر .
و لأن إيشاوين كانوا السبّاقين لحمل السلاح ضد الإستعمار , كانوا أول من اكتوى بنار القمع و الهمجية الإستعمارية .فالولاية الأولى كانت  أول منطقة تُفرض فيها المناطق المحظورة (zones d’exclusion) و أول منطقة تكّوَن فيها المحاشر  (les camps de regroupement) و كذلك كانت أول منطقة تُضرب بالنابالم و كان ذلك في الأيام الأولى لإندلاع الثورة.
في المقابل , لم  تشهد مناطق أخرى في الجزائر أحداثاً ثورية إلا بعد ذلك بسنة تقريباً . لا يمكننا أن ننكر أنه كان لأحداث الثورة التحريرية أثراً بليغاً في تشكل الوعي و الشخصية الحديثة لإيشاوين ,فمازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ ببطولات رجال و نساء الأوراس و كذا حملات القتل و الحرق و العقاب الجماعي الذي مارسه جيش الإستعمار .
لكن هذا التاريخ البطولي لم يُوثّق جيداً ولم تُقترح له دراسية نقدية من طرف أبناء المنطقة لأن النظام إستولى عليه ليستعمله ضد إيشاوين وذلك بتنويمهم واستعبادهم.
نتناول في هذا المقال موضوع الخطاب الثوري النوفمبري و كيف وظّفته السلطة الجزائرية لتدجين النخب الشاوية و جعلها تجتر بطولات ثورية طيلة نصف قرن من الزمن بدل  أن تعمل على تغيير واقعها المرير و المطالبة بحصتها في التنمية.

الأوراس الأشم , “الولاية المجاهدة” , “تضحيات الشهداء “, “الثورة المجيدة” , “نصب تذكاري”

على شاشة التلفاز الحكومي تبدو مُقدّمة نشرة الأخبار أنها لم تتغيَّر منذ “الثورة الزراعية ” .  بفستانها الأزرق و نظّارتها الثقيلة تتلو بصوت رتيب أخباراُ تبدو أنها كذلك من عصر بومدين : ” زار اليوم الوزير  الفلاني عاصمة الأوراس  باتنة لتخليد ذكرى إندلاع  ثورة أوّل نوفمبر المجيدة .  و إستهلّ الوزير زيارته بوضع إكليل من الورود على النصب التذكاري المُخلّد لهجوم أول نوفمبر و قرأ الفاتحة على روح الشهداء الأبرار . وفي كلمته أمام السلطات المحلية و أعيان الولاية و بحضور وسائل الإعلام ,شدّد الوزير على أهمية إحياء تضحيات سكّان “الأوراس الأشم” في إسترجاع السيادة الوطنية . ثم دشّن الوزير لوحة تذكارية لمعركة مهمة كبّد فيها ثوّارنا “البواسل” خسائر فادحة للعدو الفرنسي .
ثم إنتقل الوزير و الوفد المرافق له إلى ولاية خنشلة أين قام برفقة والي الولاية بتدشين إعادة تسمية مدخل المدينة ب”ممرّات الحرية” ووضع الوزير حجر الأساس لبناء معلم تذكاري يُخلّد هجوم ليلة أول نوفمبر الذي نفّذه ثوّار المنطقة . وفي كلمته بالمناسبة , شدّد الوزير على أهمية إعادة الإعتبار و نفض الغبار على أمجاد ” هذه الولاية المجاهدة”  و تضحيات سكّانها من أجل إسترجاع السيادة الوطنية . ثم غادر الوزير و الوفد المرافق لهُ تراب الولاية “.
بنفس نبرة الصوت الآلية والمُملّة , تقوم المنشّطة بالمواصلة بعد أن عدّلت قليلا نظّاراتها: ” وفي خبر آخر , زار وزير الداخلية  ولاية كذا (خارج الأوراس) أين قام  بتدشين المنطقة الصناعية الجديدة , ثم وضع الحجر الأساس لتوسيع ميناء المدينة . وفي كلمته أمام السلطات المحلية و الصحافة شدّد الوزير على أهمية تسريع وتيرة التنمية بالولاية و احترام آجال تسليم المشاريع وكذا إعطاء الأولوية لأبناء المنطقة في التشغيل .ثم قام  الوزير و الوفد المرافق له بزيارة الولاية المجاورة أين قام بتدشين جزء من الطريق السريع الذي دخل الخدمة حديثاً ثم أشرف على بداية تشغيل التجهيزات العصرية التي زُوّد بها مستشفى المدينة . وشدّد الوزير في كلمته أمام السلطات المحلية و الصحافة على أهمية رفع من مستوى الخدمات الصحية للمواطنين لتمكينهم من الإستفادة من خدمات صحية راقية  و تجنيبهم عناء التنقل إلى الولايات المجاورة . ثم غادر الوزير و الوفد المرافق له …إلخ ” .
إن هذا المقطع و إن كان من نسج خيال الكاتب فإنه يبدو مؤلوفاً جداً  , فطالما أغدق المسئولون الجزائريون على الأوراسيين بجميع صفات البطولة  والبسالة و الإقدام   .و لا يمكننا أن ننكر كرم السلطة في بناء الأضرحة و المعالم و اللوحات التذكارية المُخلّدة  لبطولات إيشاوين أثناء الثورة . في المقابل, تصبح هذه الأيادي السخية نفسها,  بخيلةً و شحيحةً جدا عندما يتعلق الأمر بمشاريع التنمية و التعمير.
فيمكننا أن نقول أن إيشاوين ضحّوا بكل شيء من أجل الإستقلال و لم ينالوا منه إلّا شعارات ديماغوجية و أضرحة و لوحات تذكارية .

الإنتقائية في التعامل مع تاريخ الثورة
من المفارقات أن هذا النظام الذي بنى إيديولوجيته على تمجيد ثورة التحرير , تجاهل أحداثاً مفصلية من تاريخ هذه الثورة حدثت في الولاية الأولى الأوراس-النمامشة بالتحديد .
فالولاية التي لم تشارك في مؤتمر الصومام تعرّض قادتها للتصفية من طرف لجنة التنسيق و التنفيذ المنبثقة من هذا المؤتمر .  ففي ما يسمى ب”قضية لعموري”  تم محاكمة و إعدام مجموعة كبيرة من عقداء الأوراس و كذلك حدث في قضية “عبّاس لغرور” الذي أُعدم رفقة خيرة جنوده .
بالإضافة إلى هذه الأحداث ,لا يزال يكتنف الغموض حادثة إستشهاد مصطفى أوبولعيذ و إستسلام عاجل عجّول و غيرهما . فالكتب التي وثّقت تاريخ الثورة في الأوراس قليلة جدا بالمقارنة بالمناطق الأخرى فيما لم ينتج إيشاوين ولا فيلما واحدا عن الثورة التي يتغنّون بها منذ نصف قرن .
فالسردية الرسمية للنظام تفضل النظرة الفلكلورية لتاريخ الثورة و تختزلها في”ليلة أول نوفمبر” و ” أول رصاصة”  فيما تتجاهل أحداثاً أكثر أهمية لأن النظام لم يُمجّد الثورة إلا من أجل شرعنة بقاءه في الحكم , أما التاريخ الحقيقي للثورة فهو لا يهمه بتاتاً .

النوفمبرية , الخاصرة الرخوة لإيشاوين

يقول عمّار نقّادي ” الشاوي في جوهره وِحدوي سُلطوي , يلفظ أي شيء مثير للخلاف أو للجهوية  . إنه يفضّل أن يتلاشى , أن يذوب , فقط من أجل أن لا يُلحق الضرر بالجماعة  “.إنها خصائص ورثها عن أجداده الذين كانوا دوما أول من ثار على المستعمِرين فلا عجب أن يكون الشباب الشاوي أول من يحمل السلاح ضد الإرهاب في العشرية الحمراء. فكان الجيش و مازال يشكل إيشاوين منه نسبة لا تقل عن 75 بالمئة .
لقد إستغل النظام الجزائري جيدا هذه الخصائص الشاوية و قام بتغذيتها غداة الإستقلال بخطاب ثورجي  شعبوي يلفظ الهويات الجهوية لصالح دولة مركزية يعقوبية تستمد شرعيتها من بيان أول نوفمبر وتضحيات “الشهداء”. هذا الخطاب المُحتكر للوطنية سيطر لعقود على كامل جوانب الحياة الإجتماعية و السياسية في الأوراس .
إرتكزت هذه السياسة على الحزب الواحد (الآفالان) و مجموعة من التنظيمات البيروقراطية التي تدور في فلكه كمنظمة أبناء الشهداء , حركة المجاهدين , أبناء الشهداء , أبناء المجاهدين و الكشّافة الإسلامية وغيرها .
هذه الآلة البيروقراطية الضخمة قمعت أي صوت معارض و إتهمته بالخيانة و العمالة  للمُستعمر (أو الإمبريالية العالمية كما كانت تقول بروباغاندا نظام بومدين) . فكل من إنتقد التوجهات القومجية البعثية للنظام  فهو ضد “الثورة” و أداة ” للأيادي الخارجية ”  .
فهكذا قامت البيروقراطية المحلية  متحالفة مع ” العائلة الثورية” (التي كان أغلب أعضائها أميّين) بشيطنة مناضلي النزعة الأمازيغية في الأوراس  الذين كان معظمهم من الشباب المتعلِّم و إتهموهم بخيانة “قيم الثورة” و “تضحيات الشهداء” . و بذلك منعوا تشكل وعي شاوي حديث و شخصية شاوية مستقلة و أضعفوا مناعة الجسد الشاوي الذي أصبح بعد ذلك لقمة صائغة أمام المشروع التعريبي البومديني الذي قضى على الهوية الشاوية و مقوماتها و كذا الفكر الداعشي المتطرف الذي مازال ينخر الجسد الشاوي لحد اليوم .

إن هذا الخطاب الوطني العاطفي الساذج الذي ورثه الشباب الشاوي اليوم جعل الأوراس مطيّة لجميع التيارات و الإيديولوجيات الوافدة , فيكفي أن تُغلّف إيديولوجيا بغلاف وطني و تُضاف إليها بهارات دينية حتى يكون الشاوي في الصفوف الأولى للدفاع عنها . فهكذا يُخدع الشاوي من طرف العروبيين و الإسلاميين و أحزاب السلطة في الإستحقاقات الإنتخابية .

الخاتمة :
لقد أصبح إجترار هذا الخطاب الثورجي العاطفي ملاذاً لبعض النخب الشاوية اليوم للهروب من بؤس الواقع و الفقر الذي ترزح تحته بلاد إيشاوين . فالتغني ببطولات الشهداء الأبرار أصبح كالمسكنّات للجسد الشاوي المُثخن بالجراح . لذلك فقد أصبح من الضروري اليوم على الشاوي أن يتحلى بالعقلانية في النظر إلى واقعه و يلفظ هذه العاطفة المفرطة و السذاجة في التعاطي مع الأمور.
إنّنا نفضل اليوم أن يكون للشاوي مصانعاً تُشغّل أبناءه و مستشفياتاً يعالج فيها بدل أن يكون
بطلاً تخلّده نشرات التلفزة الوطنية البائسة و خطابات المسئولين الخشبية.

يوغرطا حنّاشي