من معالم العمارة المحلية بآوراس

تمهيد:

بخوش زهير؛ أستاذ مساعد (أ) بفرع الآثار القديمة، جامعة 8 ماي 1945، ڨالما

رغم ما صيغ من افتراضات عن العمارة المحلية ببلاد المغرب القديم، وبمفهومها الشامل عمارة مدنية، عسكرية، دينية… فإنّها لم تصل بعد، إلى درجة الوضوح واليقين؛ بحيث لم تتعد الدّراسات والبحوث في هذا المجال، نطاق آثار ومعالم العمارة الجنائزية فقط والمتمثلة في القبور الميڨاليتية والأضرحة الملكية، التي تأكّد الكل من وحدتها الثقافية، رغم انتشارها الجغرافي الواسع عبر كل مناطق الشمال الافريقي.

خريطة رقم 1: الانتشار الجغرافي للقلاع المحصّنة ببلاد المغارب (المرجع: M.-C. Delaigue, J. Onrubia Pintado,Y. Bokbot, A. Amarir, « Une technique d’engrangement, un symbole perché : le grenier fortifié nord-africain »)

ونظرا لانعدام الأبحاث المتخصّصة والمتعمقة، تبقى مسألة عمران شمال إفريقيا خلال الفترة ما قبل الرومانية، يكتنفها الكثير من الغموض، فمسكن فترة فجر التاريخ لم يتم تعريفه وتحديد خصائصه إلى وقتنا الحالي، ويتفق معظم الباحثين على أن المغاربة القدماء، كانوا قد اتخذوا من المغارات والكهوف(Troglodytes)  والملاجئ الصّخرية مأوى ومساكن لهم (1)، وهذا ما نجد الإشارة إليه وذكره في بعض النصوص التاريخية القديمة، كما أننا نلاحظ ديمومة واستمرارية هذا النوع من الاستقرار البشري إلى فترة ليست بالبعيدة عنّا، مثل كهوف نفّوسا بليبيا ومطماطا بتونس وكهوف أوراس، كما نجدها منتشرة غربا حتى جزر كناري بالمحيط الأطلسي، والتي يطلق عليها غالبا اسم إيفران (جمع إيفري) بمعنى المغارة أو الكهف. وقد اتخذت العديد من الأقوام المغاربية هذه التسمية كاسم علم لها مثل آيث يفران، وربما كانت كذلك أصل تسمية إفريقيا كما يعتقد كثير من المؤرخين، إذ يرى الباحث جابريال كامبس(G. Camps) احتمال استقرار سكان المغرب القديم بهذه الملاجئ الكهوفية ابتداء من الفترة النيوليتية وفجر التاريخ (2)، وذلك ما يدلّ عليه الانتشار الواسع لهذا النوع من آثار الاستيطان البشري بشمال إفريقيا للعديد من المواقع المنيعة التي تتواجد في بعض المناطق الجبلية على قمم الصخور والمرتفعات. [خريطة رقم 1]، كانت قد استغلّت مناعتها الطبيعية لبناء مراكز وتجمعات سكانية من قبل الأمازيغ القدماء؛ اكتشفت أمثلة منها في العديد من الأماكن بالكتلة الجبلية الأوراسية (3)، تكون عادة صعبة الوصول إليها لكونها محصّنة طبيعيا عن طريق الأجراف والهواة العميقة التي تحيط بها من كل الجهات، وفي بعض الأحيان يبنى سور دفاعي من الجهة التي لا توفر حماية ومناعة للموقع مثلما هو الأمر بـ: إيشوقّان (4).

والجدير بالذكر أنّ هذه المواقع تنتشر بكثرة عبر كل مناطق الكتلة الأوراسية خاصة بعمقها الجبلي الذي يعتبر بمثابة حصن طبيعي منيع نظرا لتكوينه الجيولوجي المتمثل في كثرة مرتفعاته التي تنتهي بمنحدرات شديدة ذات الصخور والقمم الشاهقة العلو والمناعة الطبيعية، والهواة والمضايق والفجاج… ويطلق سكان المنطقة على هذه المواقع تسمية ثيقلعين أي القلاع؛ وغالبا ما ترتبط هذه التسمية بنسبتها إلى القبيلة أو العرش مالك القلعة. وعلى سبيل المثال نذكر: ثاقلعيت نـ-آث لمّوش (قلعة لّمامشا) الواقعة بشرق الكتلة الأوراسية مع مسار إيغزر آيث بربار بجبل ششّار. والملاحظ أن هذه القلاع تشيّد أساسا لأغراض اقتصادية واجتماعية أكثر منها دفاعية أو حربية. فهي تعبر عن تجسيد لنظام اقتصادي محلي يتمثل في الاحتياط والادخار ليوم الحاجة، للمحاصيل الفلاحية من حبوب جافة وفواكه بالإضافة كذلك إلى عدة مؤن أخرى مثل العسل والسمن و الزيت… ومن الناحية الاجتماعية فهي ترمز إلى وحدة القبيلة وإلى مختلف العلاقات بين أفرادها والحفاظ على نسبها و نلسها، ذلك إن كل أسرة منها تملك حيزا أو مكانا خاصا بها تدخر فيها مؤونتها إلى حين عودتها من رحلة الشتاء، أين تستقر بالحدود الجنوبية للكتلة الأوراسية المتاخمة للصحراء وبعد هذه الإقامة الشتوية تعود إلى موطنها الأم (القرية)، ومن هنا يمكننا ملاحظة الدور الاجتماعي الذي تلعبه القلعة الأوراسية في ربط  مختلف الأسر والعشائر بالقبيلة الأم ونواة قريتها الأصل .

لكن الأمر الذي جذب انتباه معظم الباحثين الذين جابوا الكتلة الأوراسية طولا وعرضا، في إطار حملات الأبحاث الاستكشافية خلال القرن 19م، هو آثار تلك القلاع المنيعة والمنعزلة، التي تشبه إلى حد كبير قلاع الإقطاعيين الأوروبية خلال القرون الوسطى، والتي تختلف في تنظيمها الهيكلي وفي مخططها عن قلاع القبائل الأوراسية الحالية، فهي تمثل وحدة تجمع عمراني كامل، أي مركز تجمع سكني تام بجميع عناصره الأساسية (العمرانية) وهذا عكس ما نلاحظه لدى القلاع المذكورة سابقا المتكونة أساسا من حجر أو غرف للتخزين ضيقة وصغيرة الأبعاد لا تصلح للإقامة أو التحصن بها. وعلى هذا الأساس يري أغلب الباحثين الذين زاروا هذه المواقع، أنها كانت قد شيّدت لغرض دفاعي، نظرا لحصانتها ومناعتها وصعوبة منافذها، ممّا يسهل عملية الدّفاع عنها.

ويطلق السّكان حاليا على هذه المواقع تسمية ”أهنشير” أو ”أشير” بمعنى: أطلال أو بقايا لآثار البنايات والتشييدات القديمة التي هجرت؛ هذا، بالإضافة إلى عدم احتفاظ ذاكرتهم بأهم الأخبار والتفاصيل التي تتعلق بمنجزي هذه القلاع وتاريخها، وكل معلوماتهم عنها، تتلخّص في كونها قد شيّدت من طرف أسلافهم الأولين أثناء فترة التواجد الروماني للّجوء إليها والتحصن بها أثناء الحروب. كما تنسب إلى الرومان في بعض المناطق. وفي مناطق أخرى إلى ملكة أوراس الكاهنة. وقد ارتبطت كذلك هذه المواقع بالعديد من الأساطير والقصص الشعبية، مثل تلك التي تقول بأنها كانت مأوى الجهال (العماليق) والجن وحتى أقوام ومخلوقات مجنحة.

وممّا لا شك فيه هو قدم هذه المواقع الدّفاعية المنيعة، رغم الاختلاف والتناقض وحتى تجاوز الصواب والمنطق فيما يتعلق بمفهومها أو تفسير تواجدها لدى الكثير من العامّة في بعض الأحيان. بل بالعكس، نرى في ذلك تدعيما وتأكيدا على قدمها وعراقتها عبر التاريخ، ولا نعتبر القلاع الحالية المعروفة الهوية سوى استمرار لتقاليد أصيلة لدى سكان المنطقة منذ القدم.

غير أنّ هذه المواقع ومنذ إشارة بعض الباحثين إليها ضمن سطور مقالاتهم وتقاريرهم، إلاّ أنها لم تشهد أيّ عملية تنقيب ولم تكن محل أيّ دراسة أو بحث علمي معمّق ومنهجي لإبراز خصائصها المعمارية، وأهميتها التاريخية التي يمكن أن تعوّض إلى حد كبير من نقص معلومات المصادر التاريخية، باعتبارها من ضمن الشّواهد الأثرية التي بإمكانها تسليط الضّوء على جوانب عدّة، وتزويدنا بمعلومات هامة من تاريخ الأقوام الأمازيغية التي اعتصمت بالكتلة الأوراسية، كما أنها قد تسمح لنا كذلك بمعرفة بعض جوانب البيئة السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية لهذه الأقوام عبر مختلف العهود التي مرّت بها المنطقة .

المواقع الدفاعية بمنطقة جبل ششّار:

صورة قمرية لموقع قلعة هابندوتّ
(من الموقع الالكتروني: Goggle Earth)

زهير بخوش : أستاذ مساعد (أ) جامعة ڨالما

بيبليوغرافيا المقال:

الأطالس:
St. Gsell, Atlas Archéologique de l’Algérie, Alger, 1902 (suppl. 1916)
Barrington Atlas of the Greek and Roman World, Edited by Richard J. A. Tablent, Princeton University Press, 2000

مقالات علمية ومونوغرافية:
E. Asmhri et H. Ramou, « Réflexions sur les origines et l’évolution des Igoudar », Igoudar. Un patrimoine culturel à valoriser, Publication de l’IRCAM (Série Colloque et Séminaires N° 30), Rabat, 2013
M.-C. Delaigue, J. Onrubia Pintado,Y. Bokbot, A. Amarir, « Une technique d’engrangement, un symbole perché : le grenier fortifié nord-africain », Revue Techniques & Culture, N° 57, 2011/2
St. Gsell, H. Graillot, « Ruines romaines au nord des monts de Batna », Mélanges d’archéologie et d’histoire de l’École française de Rome, 14, 1894
Guerbabi, «Protohistoire de l’Aurès. Réflexions méthodologies», Revue Aouras, N°3, Paris, Sept.2006
E. Masqueray, « Ruines anciennes de Khenchela à Besseriani (AD MAIORES) », Revue africaine, T.22, 1878
E. Masqueray, « Le Djebel-Chechar », Revue africaine, 22, 1878,
E. Masqueray, « Voyage dans l’Aouras. Études historiques ». Bulletin de la Société de Géographie de Paris, 6è série XII, 1976
P. Morisot, « La Zaouia des Béni Babar, cité pérégrine ou municipe latin ? », Paris, Bull. arch. du CTHS, 1988
L. Rinn, « Géographie ancienne de l’Algérie. Les premiers royaumes berbères et la guerre de Jugurtha », Revue africaine, T.29, 1885
Id., « Localités désignées par l’historien Procope, en son récit de la 2ème expédition de Solomon dans le Djebel Aourès (année 539 Ap. J.C.) », Revue africaine, T.37, 1893,
Vaissière, « Les Ouled Rechaich », Revue africaine, T.37, 1893

دراسات تاريخية:
J. Birebent, Aquae Romanae, Service des antiquités d’Alger, 1962.
G. Camps, Aux origines de la Berbérie. Monuments et rites funéraires protohistoriques, Paris, 1961.
Id., Aux origines de la Berbérie. Massinissa ou les débuts de l’histoire, Libyca (Archéologie-Epigraphie), T.VIII, Vol. I, Alger, 1960.
St. Gsell, Les monuments antiques de l’Algérie, T.I, Paris, 1901.
Id., Histoire ancienne de l’Afrique du Nord, 1908/1913 en huit volumes. Pour les Aurès, voir T.I, IV et VII.
E. Masqueray, Formation des cités chez les populations sédentaires de l’Algérie (Kabyles du Djurdjura, Chaouia de l’Aouras, Beni Mzab), prés. F. Colonna, Aix-en-Provence, Edisud, 1983.
P. Morizot, Archéologie aérienne de l’Aurès, éd. du C.T.H.S., 1997