لسانيات

تفكيك خرافة “اللغات العروبية”

نتطرّق في هذا المقال الى احدى أطرف اختراعات القومجيين العروبيين ألا و هي مصطلح “اللغات العروبية” . اتخذ هؤلاء من هذا المصطلح أداة لتعريب الشعوب و السطو على موروثهم الحضاري و نسبِه الى العرب . و كان عثمان سعدي كالعادة في مقدمة هؤلاء “اللصوص” الذين عاثوا تعريبا و تحريفا في تاريخ الشعوب الأخرى و هو ما جعله موضوعا للسخرية و التندّر بسبب سخافة و شطط نظريّاته.
اليك بعض الأمثلة المقتضبة على هذه التوظيفات الإيديولوجية لنظرية “العروبية” على ان نبسط الحديث فيها في مقال آخر . يقول عثمان سعدي مثلا :
– ” اللغة الأمازيغية لغة تفرعت عن اللغة العربية الأمّ قبل آلاف السنين ”
-” إن اليونانية والفارسية مشتقتان من العربية ”
-” إن أوروبا كانت تتكلم اللغات العروبية قبل انتشار القبائل الهندو أوروبية فيها” لن يجد أي انسان عاقل  في هذا الكلام سوى هذيان شخص معتوه و مهووس بالعروبة ! لكن الغريب هو أن عثمان سعدي و اصدقائه حاولوا اعطاء ابعاد علمية لهذا الهذيان كما سوف نرى في هذا المقال .

ما هي “العروبية” ؟

ظهرت نزعة حديثة عند العلماء العرب تنحى نحو تجنب استعمال مصطلح اللغات “السامية” و محاولة تعويضه بمصطلحات جديدة قاموا بتوليدها حديثا هي : الجزرية أو الجزيرية , العاربية , العروبية و غيرها . و زعموا أن السبب هو  كون لفظ ” اللغات السامية” مبني على أساس دیني توراتي .
و كما هو معلوم فإن أول من استعمل لفظ “اللغات السامية ” كان العالم الألماني أوغست لودفيك شلوتزر (August Ludwig Schloetzer) عام 1781 عندما اعتمد على نص توراتي لتقسيم العائلات اللغوية . يقول النص أنه بعد الطوفان لم ينجُ من سكان الارض سوى نوح و أبنائه الثلاثة  ” سام و حام و يافث”  و منهم تفرعت اللغات في العالم الى : السامية (العبرية , الفينيقية , العربية , …الخ) , الحامية (القبطية , الأمازيغية … ) , الآرية (او اليافثية) و هي اللغات الأندوأوربية .
لكن السبب الحقيقي وراء تحاشي لفظ “السامية” من طرف القوميين العرب في رأينا , هو أن رمزية اللفظ اصبحت مقرونة بقومية واحدة هي اليهودية دون غيرها و ذلك منذ القرن التاسع عشر . ف”الجنس السامي” و “النزعة السامية” و “معاداة السامية” (antisémitisme) اصبحت مقرونة حصريا على اليهود دون باقي الأجناس السامية الأخرى .
السبب الثاني هو اعتبارات قومية إيدولوجية واضحة خاصة ما تعلق بمحاولة تعويضه بلفظ ” العروبية” .
على أن  هذه الألفاظ البديلة للغات السامية هذه لم تنتشر على الشكل الذي تمناه واضعوها , فإستثناء ” الجزرية” التي تستعمل في بعض الدراسات الفيلولوجية كمرادف للفظ “السامية” , مايزال ينظر المختصون بعين الريبة لبقية الألفاظ الأخرى .
و لفظ “العروبية” اقترحه أول الأمر الكاتب التونسي محمد خليفة في كتابه ” أسرة اللغة العروبية السامية” لكونه اقرب الى الواقع اللغوي و “كون تلك اللغات شقيقات للغة العربية” على حد زعمه .  بعد ذلك تلقّف  مجمع اللغة العربية الليبي هذا المصطلح و تبنّاه رسميا في توصياته عقب ندوة عقدها بطرابلس أيام 5 الى 8 ماي 2005 [1].
و كان عثمان سعدي و علي فهمي خشيم من اعضاء هذا المجمع الذي كان يغدق عليه نظام القذّافي بغير حساب من اجل الترويج للبروباغندا القومجية التي شغف بها معمر القذّافي . فأندفع هذان المزوِّران الى التنافس في من يعرّب أكثر من شعوب العالم بهوس لا يضاهيه هوس .
فإستطاع خشيم تعريب “اللغة المصریة القدیمة”  و الليبية القديمة .  كما قام بدراسات “علمية” على حد عزمه و مقارنات  بين العربية و اللاتينية و الإنجليزية اثبت على ضوئها أن هذه اللغات “عروبية” .
أما صديقه عثمان سعدي فقد أبلى بلاءا حسنا في هذا المجال و لم تفتر همّته حتى أثبت أن “الأمازيغ عرب عاربة” و أن أكثر من “ثلثي اللاتينية كلمات عربية” و ان أوروبا كانت تتكلم لغات “عروبية قبل انتشار القبائل الهندو أوروبية فيها” و أن “الفارسية مشتقة من العربية”.
فمصطلح “العروبية” لا أساس علمي له بل هو مجرد هوس إيدولوجي  كما يعترف به خشيم نفسه , فهو يعرّف العروبية في كتابھ “رحلة الكلمات” الصفحة 9 كالتالي : “العروبیة مصطلح بدیل لما عرف باسم السامیة، و مقصود بھ  في مصطلحنا  اللغة الأم، أو اللغة الأولى، التي انبثقت عنھا لغات الوطن العربي بحدوده المعروفة الآن (من المحیط إلى الخلیج)” . فلاحظ عبارات “الوطن العربي” و “المحيط الى الخليج” التي لا علاقة لها بالمصطلحات العلمية التي تُستعمل في حقل الدراسات اللغوية الحديثة و انما هي شعارات  مغترفة من قاموس القومية العربية.

الأمازيغية و اللغات العروبية

اللغات السامية هي : العربية , الكنعانية , الآرامية , الفينيقية , العبرية , البابلية , الآشورية , الآكادية , الأوغاريتية… وغيرها . يمكن اذن لهؤلاء القوميين العرب أن يطلقوا لفظ “العروبية” على أي لغة من هذه اللغات التي ذكرناها , لكن كيف جعلوا الأمازيغية لغة “عروبية” و هي ليست لغة “سامية” ؟
كما أنها لا يمكن ان تكون “جزرية” نشأت في شبه الجزيرة العربية لأنها لغة أهلية في شمال افريقيا وليست دخيلة .

اجمع علماء اللغة على تصنيف الأمازيغية ضمن عائلة اللغات “الحامية” و اقترح بعضهم (م. كوهين M. Cohen) تسمية “الحامية-السامية” و التي تضم بالإضافة الى الأمازيغية كل من المصرية و الكوشية .
كما أن المختصّين قطعوا بكون الأمازيغية لغة أهلية في شمال إفريقيا . فيقول أندريه باصي مثلا “مفهوم اللغة الأمازيغية السائد هو أنّها لغة أهلية , و هي اللغة الأهلية الوحيدة منذ ما قبل التاريخ , و  الواقع أن اللغة الأمازيغية لم تكن أبدا لغة دخيلة ولم نجد في تاريخ بلاد البربر إشارة  إلى ظهور و اختفاء لغة أهلية “[2] .

عروبيّون أكثر من العرب

نلاحظ  أن جميع هؤلاء المروّجين لخرافة “اللغات العروبية” هم من الأمازيغ المستعربين  : التونسي محمد خليفة , الجزائري عثمان سعدي , الليبي علي فهمي خشيم  .  انها “حماسة المعتَنِق الجديد” (le zèle du nouveau converti)   , عقدة الأمازيغي المستعرب الذي يغالي في إظهار “عروبته” عن طريق الحط من انتماءه الأمازيغي و النيل منه كل ما سمحت له الفرصة .
و لم يحظ  كتاب علي فهمي خشيم “البرھان على عروبة اللغة المصریة القدیمة” بأي اهتمام في مصر.  و سبب ذلك ليس فقط اسفافه  و بُعده عن  الموضوعية العلمية  و لكن السبب الحقيقي هو اعتداد المصريين بحضارتهم القديمة و افتخارهم بها . فرأى المصريون في نِسبة الحضارة الفرعونية الى العرب تجنٍّ و تقزيم لموروثهم الحضاري الغني.
كما هو حال اللبنانيين و السوريين الذي يعتزّون بالحضارة الفينيقية , و حال العراقيين مع الحضارة البابلية و الآشورية .
فالمصريون , و السوريون و اللبنانيون و العراقيون متصالحون مع هويّاتهم لا يشعرون أنهم مجبرون على التنكر لتاريخهم و تقديم قرابين لآلهة العروبة لكي ترضى عنهم على عكس هؤلاء المستعربين من الأمازيغ حديثي العهد بدين العروبة فَهُم يظهرون الغلو و يتكلّفون الورع  .
و قبل ان نختم هذا المقال لا بأس بتوجيه بعض الأسئلة لأصحاب النزعة “العروبية” :
لماذا لم يسبق لنا ان سمعنا عثمان سعدي و اصدقائه يقولون أن اللغة العبرية هي من اللغات “العروبية” ؟ مع أن العبرية هي أقرب لغة الى العربية  و هي من اللغات السامية  ؟
لماذا لم ينسبوا الموروث الحضاري اليهودي الى العرب  كما فعلوا مع الأمازيغ و الرومان و الفينيقيين ؟
أخيرا ,  اذا كان اليهود ساميون فَهم اذن “عروبيون” وفق نظرية خشيم و عثمان سعدي . في هذه الحالة , هل يحق لهم في ان تكون لهم دولة على الأراضي العربية وفق مبدأ “شعب عروبي على أرض عروبية” ؟ .

يوغرطا حنّاشي

[1]الأمازيغ عبد الله نعتي ” أوهام العروبيين و خرافة عروبة

[2] المرجع : A. Basset , La Langue Berbère ,in : L’Afrique et l’Asie, 1956
أورده العربي عقّون في كتابه “الأمازيغ عبر التاريخ , نظرة موجزة في الأصول و الهوية “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى