الأمازيغ عبر التاريخ : نظرة موجزة في الأصول والهوية

تثير مسألة الهوية في أفريقيا الشمالية (Berbérie) إشكالا عميقا، فقد تمّ التعامل مع التاريخ في هذه المنطقة بطريقة انتقائية [التركيز على فترات وحذف أخرى] وكان يفترض أن تتوجّه البحوث التاريخية والعلوم المتّصلة بالتاريخ إلى هذا المجال، عوض تكريس حالة الاستلاب(Aliénation) التي جعلت بعض الشمال أفريقيين يتنكّرون لذاتهم، وينافحون من أجل انتماءات مصطنعة.

لعلّ البعض معذور في هذا السياق، بسبب غياب شبه تامّ للبحوث والدراسات في هذا الموضوع، والأخطر هو تحرّك الآلة الإيديولوجية بالمسخ والترهيب وجميع التهويمات (Fantaisies)، فهل يمكن أن تكون هوية شعب مصدر رعب له بهذه الصيغة المفتعلة وإذا كانت الهوية في كلّ بلاد الدنيا عامل استقرار وتضامن واتّحاد فكيف تكون في شمال أفريقيا عامل قلق واضطراب؟.

يمتلئ التاريخ المدرسي والجامعي بالكثير من المغالطات، بعضها مقصود وبعضها ساذج وسطحي، مثل تقديم الشعب الأمازيغي المستعرب على أنّه شعب عربي[بالمعنى العرقي] مستوطن في هذه البلاد، وبذلك تحذف أهمّ حلقات التاريخ الأمازيغي وهي حلقة الاستعراب أي تحوّل الأمازيغ إلى التعبير بعربية متميّزة، هي التي أسمّيها : العربية كما تكلّمها الأمازيغ، وهذه هي العربية الشعبية التي نتكلّمها يوميا في مدننا وأريافنا، بلكنة أمازيغية لا تخفى على المتخصّصين في الألسنية، وقد انجرّ عن هذه المغالطة توهّم وجود شعبين في أفريقيا الشمالية، ليسهل فيما بعد إذكاء روح العداوة والفتنة بينهما.

إذن، لقد وقعت مغالطة كبيرة عندما توهّم بعض المستعربين أنفسهم عربا (بالمعنى العرقي)، وسلك البعض منهم مسلك التناقض إزاء إخوانهم من المحافظين بإيحاء من بعض نشطاء السياسة البائسين، الذين يقفون خلف مثل هذه الأعمال المشبوهة، والواقع أنّ الشعب واحد في أصوله وتقاليده وعاداته وإيجابياته وحتّى في سلبياته، أمّا العربية فهي لغة رسّخها الإسلام، وتعلّق بها الأمازيغ مستعربون ومحافظون على السواء، ولعلّ هذه الدراسة الموجزة تفيد في إلقاء الضوء على هذا الموضوع الذي لا نبالغ إن اعتبرناه موضوع الساعة في عموم الشمال الأفريقي.

مدخل:

تعود الإشارات الأولى إلى السكّان الذين يُسمَّوْن منذ الفتح العربي بربر(1)، إلى العهود الفرعونية، منذ الإمبراطورية القديمة، فقد كان المصريون على علاقات مباشرة، أحيانا حربية وأحيانا أخرى سلمية، بجيرانهم من جهة الغرب؛ أولئك الليبو (LEBOU) أو الليبيون، التحنو أو التمحو، أو المشوَش (Tehenu, Temehu, Mashwash) .

كان أولئك الليبيون(2) متفرّعين إلى عدد هامّ من القبائل،وتذكر النصوص الفرعونية عنهم أحداثا تاريخية هامّة وعلى الخصوص محاولة غزوهم الدلتا بقيادة مرياي (Meryey) في السنة الخامسة من حكم مينيبتاح (Mineptah) في 1227 ق.م.وقد حملت إلينا النقوش التصويرية الهيروغليفية أسماء شخصيات ليبية ، ومعلومات دقيقة ذات أهمّية تاريخية وإثنوغرافية فضلا عن ملامح وأدوات وملابس وأسلحة أولئك الليبو ، نقلت كلّ ذلك إلينا بدقّة الصور الشمسية اليوم بما في ذلك الوشم .

لقد مرّت آلاف السنين، واجه فيها الشعب الأمازيغي تقلّبات التاريخ المتميّز خاصّة بالفتوحات والغزو،ومحاولات الدمج لهذا الشعب الموزّع في هذه البلاد الشاسعة التي تبدأ من غربي مصر إلى المحيط الأطلنطي، وتمتدّ إلى أعماق الصحراء في النيجر ومالي،هذه المنطقة التي تمثّل ربع القارّة الأفريقية ليست كلّها اليوم ناطقة بالأمازيغية،وأكثر من ذلك فإنّ عربية شمال أفريقيا اليوم هي لغة العلاقات الاجتماعية في التجارة والدين والدولة ، ما عدا الهامش الجنوبي من الصحراء الممتدّ من السنغال إلى تشاد،ومع ذلك تظلّ المجموعات الناطقة بالأمازيغية معزولة مقطوعا بعضها عن بعض تتّجه إلى التطوّر داخليا بطرق مختلفة ذات أبعاد وأهمّية مختلفة جدّا .

تمثّل المجموعة القبايلية (Groupe Kabyle) في الجزائر ومجموعتا آيت زيان والشلوح (3) (Braber et Chleuh) في المغرب بضعة ملايين من الأفراد ولكن في أقاليم محدودة (Ilots)،على عكس الواحات الصحراوية التي تمثّل أقاليم شاسعة ولكن عدد الناطقين باللهجات الأمازيغية فيها قد لا يتعدّى أحيانا بضعة آلاف وهذا ما يجعل خرائط امتداد اللغة الأمازيغية غير ذات دلالة كبيرة ، فالإقليم الصحراوي الذي تغطّيه اللهجات التارقية في الجزائر وليبيا والمالي والنيجر إقليم واسع، ولكن الرحّل الذين يجوبونه والمزارعون القلائل من ذوي نفس اللغة لايكادون يتجاوزون بضعة مئات الآلاف، وهم مساوون تقريبا لسكّان المزاب الذين يتمركزون في الصحراء الشمالية في إقليم أقلّ ألف مرّة من الإقليم التارقي، أمّا الكتلة القبايلية فهي آهلة 10 مرّات أكثر من المنطقة الأوراسية الأوسع منها، حيث يتكلّم السكّان هناك لهجات أمازيغية متعدّدة، وهذه استنتاجات عميقة خرج بها باحثون في الألسنية امتدّت على عقود وأخذت منهم جهدا ووقتا كبيرين(4).

اللغة الليبية (الأمازيغية القديمة):

لا يوجد اليوم – في واقع الحال – لغة أمازيغية بالشكل الذي يجعلها انعكاسا لمجموعة واعية بوحدتها في شكل شعب أو جنس أمازيغي ورغم هذه الوضعية السلبية التي يتّفق حولها كلّ المختصّين إلاّ أنّ استمرار وجود الأمازيغ كشعب وثقافة على نطاق أوسع وكلغة على نطاق أضيَق لا نقاش فيه.

إنّ اللغة الأمازيغية، أو الليبية (Le Libyque) المشتركة القديمة جدّا، لا توجد إلاّ في أذهان علماء الألسنية، ولا ريب أنّها تتميّز عن لهجات اليوم، وكانت منتشرة في عموم الشمال الأفريقي من النيل إلى الأطلنطي، ما عدا جبال تبستي التي هي معقل لغة تيدا (Téda).

في هذا الشمال الأفريقي استعمل الأفريقيون القدامى (أو قدماء البربر) منظومة كتابية هي الخطّ الليبي (Le Libyque) الذي انبثق منه تيفناغ التوارق، والدليل على ذلك هو أنّ النقوش الليبية والتيفناغ القديم عثر عليهما في مناطق هي اليوم مستعربة تماما (في تونس وفي شمال شرقي الجزائر وفي منطقة الغرب وطنجة في المغرب وفي الصحراء الشمالية…) وكانت هذه الكتابة في المناطق الشمالية من بلاد البربر وعلى الخصوص الساحلية منها،قد واجهت منذ وصول الفنيقيين منافسة كبرى من طرف الكتابة البونية ثمّ اللاّتينية فيما بعد، إلى الحدّ الذي يجعلنا نقبل بالاستنتاج الذي مفاده أنّ الكتابة الليبية في تلك المناطق طواها النسيان عند أهلها وعلى الخصوص عند حلول الألفباء العربية مع انتشار الإسلام في القرن السابع. أمّا في المناطق الصحراوية البعيدة عن المنافسة فقد ظلّت محفوظة بل امتدّت حتّى جزر الكناري التي كان شعبها القديم (القونش Guanches) أمازيغيا والخلاصة أنّه يمكن التأكيد بأنّه في فترة تاريخية معيّنة كان لأسلاف الأمازيغ منظومة كتابية أصيلة منتشرة مثل انتشارهم من البحر المتوسّط إلى النيجر (5).

إنّ الحجّة الأخرى التي يمكن تقديمها لأولئك الذين– رغم كلّ الوضوح القائم – ينفون قدم توسّع انتشار اللغة الأمازيغية هي توبونيميا(Toponymie) باقية إلى اليوم وعلى الخصوص في المناطق المستعربة،وهي أسماء أمازيغية تماما. ومنه نؤكّد أنّ اللغة الأمازيغية كانت كاملة الحضور عبر القرون السابقة،وإذا تراجعت اليوم أمام حركة استعراب يدعمها الدين والمدرسة والإدارة، فإنّ الأمازيغي حتّى إذا كان مستعربا يظلّ على الدوام متميّزا عن عرب الجزيرة العربية، أو المشرق المستعرب قبله، والواقع أنّه يوجد ضمن المجتمع الإسلامي الشمال–أفريقي والصحراوي أمازيغ مستعربون وهم في أحيان قليلة خليط أمازيغي عربي، ويوجد أيضا أمازيغ محافظون على اللغة الأمازيغية، هؤلاء الأخيرون هم الذين يشار إليهم اليوم باسم البربر (Berbères)، وهو اسم روّجت له المصادر العربية .

من بين الخليط الأمازيغي المستعرب الذي لا يكوّن بذاته كيانا مجتمعيا إلاّ في الإطار الأمازيغي، نميّز مجموعة قديمة من الحضر ذوي أصول مختلطة في أغلب الحالات لأنّ المدن – وهو ما لا يمكن إغفاله – ظلّت على الدوام الملجأ الأخير لعناصر من هنا وهناك مثل مسلمي الأندلس، والوافدين الجدد الذين انضووا تحت اسم الأتراك مع أنّ أغلبهم من أصول بلقانية ومن الجزر اليونانية، وكذلك مجموعات المزارعين المستعربين وكذلك الرحّل الذين تقترب لغتهم من لغة الأعراب إذ نجد فيها بعض المنحدرين من أعراب سليم ومعقل.

إلى جانب هذا الخليط، تعيش المجموعات الأمازيغية المحافظة. ولا يزال التنوّع سمة بلاد البربر الشاسعة، فإلى جانب الأخلاط(6) وأغلبهم من الأمازيغ المستعربين توجد المجموعات المحافظة على اللغة الأمازيغية والتي توصف جميعها بالأمازيغية ومع هذا التنوّع (تعدّد اللهجات الأمازيغية والعربية على السواء) يلتقي الجميع في منظومة موحّدة من التقاليد والعادات كما هو الحال في كلّ البلاد المتوسّطية، فهناك المشتغلون في زراعة البساتين، وهم فلاّحون حقيقيون شديدو التمسّك بأرضهم مثل الجبليين القبايليين والريفيين (Les Rifains de Maroc et les Kabyles de l Algérie) زرّاع التين والزيتون، وكذلك الحال بالنسبة لفلاّحي الواحات المتمسّكين بنخيلهم وبفدادين الخضر التي يعيشون منها، مثلهم مثل زرّاع الحبوب في الجبال الجافّة مثل مطماطة في الجنوب التونسي والشلوح بالأطلس الصغير (Anti-Atlas) المغربي الذين برعوا في زراعة المصاطب على السفوح، وهناك مناطق تجمع بين زراعة الأشجار المثمرة وتربية الحيوان في شكل أنصاف رحّل مثل الشاوية(7) في الكتلة الأوراسية والسهول العليا الشرقية، والإختلاف واضح بين هؤلاء الجبليين القساة وذلك المجتمع الحضري الصحراوي الذي تخصّص في التجارة عبر الصحراء وتجارة صغيرة في المنطقة التلّية الجزائرية: أولئك الميزابيون الذين تفسَّر عزلتهم بخصوصيتهم المذهبية، وفي الأخير لابدّ من الإشارة إلى بعض الجبليين الأشدّاء الذين يزاولون التنقّل بقطعانهم مثل آيت عتّـا(Ait-Atta) في جبال سارغو في الجنوب المغربي وبني مجيلد في الأطلس الأوسط،ثمّ رحّل الصحراء الذين يربّون قطعانا عائلية من الجمال والماعز،وهؤلاء ظلّ الغزو بالنسبة لبعضهم(التوارق)إلى بداية القرن العشرين مكمّلالمواردهم الضعيفة في بيئة قاسية.

هناك سؤال يطرح نفسه وهو ما القاسم المشترك بين مربّي الجمال الملثّم والقاسي،والعطّار الميزابي الطيّب والحسّيب وبين المزراع القبايلي،ومربّي الحيوان من آيت زيان أكثر ممّا أشرنا إليه ، ولعلّ الجواب يكمن في المقام الأوّل في اللغة التي تنتمي إليها كلّ اللهجات الإقليمية لهؤلاء، فوحدة المفردات أمر لا جدال فيه من جزر كناري إلى واحات سيوة في مصر، ومن المتوسّط إلى النيجر،كما أنّ الأسس الرئيسية للغة من نحو وأصوات ظلّت تقاوم عزلة هذه اللهجات عن بعضها منذ قرون كما قاومت اختلاف أنماط المعيشة لأنّ الوحدة اللغوية تقوم أساسا على منظومة من الأفكار متقاربة حتّى ولو اختلف المسلك الظاهري .

ليست القرابة العميقة في اللغة فقط بل نجدها أيضا في التنظيم الاجتماعي وفي الأشكال الفنّية وفي القواعد العامّة، والحقيقة أنّه من الخطأ الفادح الحديث عن فنّ أمازيغي يقصد به الأمازيغ المحافظون(8)، لأنّ الفنون الموجودة عند الناطقين بالأمازيغية هي نفسها الموجودة عند المستعربين وما يوجد يمكن أن نسمّيه فنّا ريفيا مغاربيا صحراويا ذي أشكال هندسية يوثر الأشكال المستطيلة عن المنحنية،متعدّد الأساليب خاضع لنفس القواعد الهندسية الصارمة، في فنون الخزف والنسيج على الخصوص، وهذه الفنون قديمة جدّا، وهي عند المستعربين ذات استمرارية ملفتة للانتباه، فهؤلاء عرفوا ديانات متعاقبة واندمجوا في سلسلة من الثقافات تباعا عبر قرون كالنهر، قويّ أحيانا وأحيانا ينضب وتغوص مياهه تحت الأرض، ولكنّه دائم الحضور في لاشعور الأمازيغي عامّة، وأحيانا يختنق بسبب انتصار أجنبي في الحواضر ذات الثقافة الأجنبية، ولكنّه سرعان ما يعاود الظهور بطريقة عجيبة ودائمة،بمجرّد ضعف المورد الخارجي للأشكال الفنّية الأكثر تطوّرا،إنّه فنّ لا يحدّه التاريخ .

يبدو من جميع مراحل تاريخ الأمازيغ إذا استثنيا فترة الملوك النوميد قديما والعهد الموحّدي خلال العصر الوسيط أنّ تعرّض البلاد للسيطرة الأجنبية وزوال النخبة أدّى إلى ضعف الوعي بأهمّية الوحدة الإثنية و اللغوية(9)، إلى حدّ أنّ هذه الوحدة لا نكاد نجدها إلاّ في الصيغة السلبية، فالأمازيغي هو كلّ من ليس ذا أصول أجنبية، أي الذي ليس بونيا ولا لاتينيا ولا ونداليا ولا بيزنطيا ولا عربيا ولا تركيا ولا أوربيا، وإذا تجاوزنا هذا التدرّج الثقافي فإنّ بعضه غير ذي دلالة ، والبعض الآخر ذو قوّة ووزن معتبرين، وسنجد بأنّ الجيتولي والنوميدي ينحدر منه أحفاد بأسماء أخرى وبعقائد أخرى ولكن يمارسون نفس نمط الحياة، ويحتفظون في استغلال الأرض الشحيحة بنفس الطرائق في استمرارية عجيبة ، هذه الاستمرارية يرى البعض أنّها تعود إلى أنّ المزارعين والرحّل الأمازيغ لم يعرفوا الدورة الصناعية التي مسحت التقاليد والعادات، إلاّ في نطاق ضيّق من بلادهم وحياتهم،ومنذ بضع عشرات من السنين توسّعت هذه الدورة لتمتدّ إلى الأرياف والصحاري النائية وبنفس الطريقة امّحت الخصوصيات واختفت التقاليد الأقدم قدم التاريخ ذاته.

يمكن اعتبار تاريخ أفريقيا الشمالية والصحراء تاريخ فتوحات واحتلالات أجنبية تحمّلها الأمازيغ بصبر كبير، ولذلك انحصر دورهم في التاريخ في المقاومة، وكان الإبقاء على استمرار اللغة والعرف والأشكال القديمة للتنظيم الاجتماعي أهمّ نجاح لتلك المقاومة وما تجدر الإشارة إليه هو أنّه لا ينبغي تبسيط التاريخ ، خاصّة في حال المبالغة في إسقاط الحاضر على الماضي .

في الواقع يمكن أن نعكس مقدّمتي القياس ونسائل التاريخ كيف أن شعبا يمتاز بالمرونة ، طيّعا للثقافات الأجنبية إلى درجة أنّ بعضه أصبح تدريجيا بونيا، رومانيا، إغريقيا فعربيا يمكنه أن يـحتفظ بتقاليده ولغته وفنونه أي في كلمة واحدة يبقى هو هو أي يبقى أمازيغيا (10).

أن يُحصَر الأمازيغ في دور تاريخي سلبي، وألاّ يُرى فيهم سوى مشاة وخيرة فرسان في خدمة المحتلّ، وحتّى إذا اعترف لفرقهم بأنّها الفاتح الحقيقي لأسبانيا في القرن الثامن ولمصر في القرن العاشر، فإنّ ذلك –عند البعض- لا يعدو أن يكون زيغا أو حالة استثنائية، وهو البعض الذي لا يتورّع عن إصدار أحكام قاسية في حقّ البربر أقلّها وصمهم بالعدمية.

لا تشكّل القرون الطويلة من التاريخ عصورا أمازيغية مجهولة فقط، فقد كان هناك دون ريب رجال ونساء متميّزون طبعوا عصرهم بأعمال بارزة، ولكن التاريخ الذي كتبه الأجانب لايحتفظ دائما بالذكرى التي هم أجدر بها، وهذا هو الغرض الذي أنشئت من أجله دائرة المعارف البربرية (Encyclopédie Berbère) التي تنوي الكشف عن ذلك الزمن وإلقاء الضوء على تلك الشخصيات الأمازيغية المتميّزة(11).

أصـول الأمازيغ:

إنّ تكوّن الشعب الأمازيغي أو بالأحرى مختلف المجموعات الأمازيغية، يظلّ قضية شائكة، لأنّ الموضوع طُرح منذ البداية طرحا سيّئا وما يمكن تسميته بالنظريّات “الإشهارية” جعلته يستند تقليديا على الغزو والنزوح والفتوحات والاحتلال، وبالتدريج ذهب الباحثون في كلّ اتّجاه شرقا نحو الميديين والفرس، إلى سوريا وبلاد كنعان، نحو الهند وبلاد العرب الجنوبية (اليمن) وإلى تراقيا وبحر إيجة وآسيا الصغرى،وحتّى شمالا نحو أوربّـا الشمالية وشبه الجزيرة الإيبرية وجزر المتوسّط وشبه الجزيرة الإيطالية … والمؤكّد هو أنّه من الصعب أن نجد بلدا لم يقل هؤلاء الباحثون بأنّ الأمازيغ لم يقْدِموا منه،أمّا الفرضية التي يمكن دخول الموضوع بها فهي: ماذا لو أنّ الأمازيغ لم يأتوا من أيّ بلد ؟. والأحرى هو البحث على الأقلّ في الخلط الذي وقع في معطيات الدلالات المختلفة والمتناقضة، وليس أفضل من البدء في فحص الأمازيغ أنفسهم،من البقايا البشرية السابقة للفترة التاريخية وهي الفترة التي كما نعرف كان فيها السكان الحاليون يعيشون في هذا البلد.وفي كلمة ينبغي منطقيا الموافقة على أولوية الأنثروبولوجيا، فهذا العلم لا يسمح فقط بتحديد أصالة الأمازيغ ضمن سكّان الجنوب المتوسّطي،بل يسمح أيضا بتبيان مجموعات الأمازيغ في هذا الربع الشمالي الغربي من أفريقيا وعلى الخصوص التركيز على معطيات الثقافة أكثر من معطيات الطبيعة،ومن بينها استمرار اللغة الأمازيغية(12).

ينبغي في الواقع فحص معطيات الأنثروبولوجيا والألسنية(13) تباعا ، كما تنبغي العودة إلى آلاف السنين لفهم كيف تكوّن تعمير هذه المنطقة الشاسعة ما بين الصحراء والبحر المتوسّط، وأن نضع أنفسنا في بداية العصر الذي يسمّيه الباحثون في ما قبل تاريخ أوربّا: الباليوليثي الأعلى،ففي ذلك العصر كان يعيش في الشمال الأفريقي إنسان من نوع الإنسان الحالي هو الإنسان العاقل العاقل وهو صانع الحضارة العاترية، تلك الثقافة الشبيهة بالموستيرية، وهذا الإنسان العاتري الذي اكتشف في موقع دار السلطان في المغرب الشبيه بالإنسان الذي اكتشف في جبل ارحود يجعلنا نقبل فكرة أنّه انحدر منه، ومن المهمّ هنا الإقرار بتسلسل سلالي من الإنسان العاتري إلى خلفه الإنسان الذي عرف منذ مدّة طويلة بالإنسان المشتوي (Mechtoïde) ، وإنسان المشتى هذا شبيه بإنسان كرو-مانيون (Cro-Magnon) في الخصائص الطبيعية (الطول 1,74م في المتوسّط للذكور، سعة الجمجمة 1,650 سنتم3) وقلّة الانسجام ما بين الوجه العريض والمحجر ذي الشكل الطولي.

كان إنسان المشتى في البدايات يصنع أدوات صنّفت تحت اسم الإيبرومورية (Ibéromaurusiens) التي توجد آثارها في كلّ المناطق الساحلية والتلّية ، وكانت الإيبرومورية هذه معاصرة للمغداليني (Magdalénien) والأزيلي (Azilien) الأوربيين ولها نفس الخصائص التي تحملها صناعة العصر الحجري القديم المتأخّر (صغر الأدوات الحجرية) وفي غالب الأحيات تكون عبارة عن نصيلات صغيرة ذات الظهر (Lamelles à dos)، وهذه الأشياء هي عناصر أدواتية في شكل قطع منفصلة يمكن تركيب مقابض خشبية أو عظمية عليها ممّا يجعلها أدوات وأسلحة فعّالة .

كان من المألوف اعتبار إنسان المشتى – وهو ابن عمومة لإنسان كرو-مانيون – ذا أصول من خارج الشمال الأفريقي ، فقد اعتبر البعض أنّه قدم من أوربّـا عبر اسبانيا ومضيق جبل طارق لينتشر في الكناري و الشمال الأفريقي كلّه، ودليلهم أنّ أمازيغ الغوانش احتفظوا بخصائصه حتّى الغزو الإسباني، ويعتقد البعض الآخر أنّ إنسان المشتى منحدر من الإنسان العاقل-العاقل الذي ظهر في الشرق (إنسان فلسطين) ومن ذلك المنشأ الأصلي انطلقت هجرتان الأولى أعطت لنا إنسان كرو-مانيون والثانية اتجهت نحو أفريقيا ونموذجها هو إنسان المشتى. ومن هذين الافتراضين نجد أنفسنا أمام فكرة الأصل الشرقي والأصل الأوربي،وهما عنصران ظهرا فيما بعد في القصص الأسطورية العتيقة، وفي التفسيرات التهويمية (Fantaisistes) في العصور الحديثة التي لا تخلو منها حتّى الفرضيات العلمية الحالية ، ومع أنّ الفرضيتين متضاربتان تضاربا كبيرا يجعل قبولهما أو قبول إحداهما صعبا للغاية ، فافتراض نزوح إنسان كرو-مانيون عبر إسبانيا لا يمكن تحديده، لأنّ المقاربة التشريحية لا تقرّ ذلك، فجمجمة الباليوليثي الأعلى الأوربّـي لها خصائص أقلّ وضوحا من نسله المنحدر منه فرضا في الشمال الأفريقي، ونفس الحجّة يمكن أن تعترض سبيل فرضية الأصول الشرقية لإنسان المشتى، لأنّه لم توجد أيّ وثيقة أنثروبولوجية ما بين فلسطين وتونس يمكن الاعتماد عليها،وأكثر من ذلك لدينا معلومات كافية عن سكّان الشرق الأدنى في نهاية الباليوليثي الأعلى،إنّهم الناطوفيون (Natoufiens) من النمط البروتو-متوسّطي ، الذي يختلف كثيرا عن إنسان المشتى ، فكيف يمكن تفسير – على ضوء ذلك – فكرة انحدار إنسان المشتى من أصول شرقية دون أن يترك ذلك أيّ أثر على الصعيد الأنثروبولوجي ؟.

في الأخير، يبقى الأصل المحلّي وهو ببساطة ما نعتقد أنّه مهمّ اليوم، فمنذ اكتشاف الإنسان العاتري اتّضح للباحثين المتخصّصين في أفريقيا الشمالية مثل: شاملا(M. C. Chamla)، وفرمـباخ( D. Ferembach) الانحدار المباشر والمتواصل منذ النياندرتاليين شمال-أفريقيين (إنسان جبل ارحود) إلى الكرومانيونيين (إنسان المشتى) ويكون إنسان دار السلطان العاتري هو الوسيط بينهما، لأنّه يتمتّع بخصائص الإنسان العاقل-العاقل .

نياندرتاليون أفريقيون( جبل ارحود Néanderthaliens Africains (Djebel Irhoud

عاتري (دارالسلطان Atérien ( Dar Es-Soltan

(خصائص الإنسان العاقل-العاقل ( Caractères Homo Sapiens-Sapiens

الإنسان المشتوي [كرو– مانيون] Homme de Mechta (Cro-Magnon )

يأخذ نموذج المشتى في الإمّحاء تدريجيا أمام إنسان آخر،ولكن لم يكن اختفاؤه نهائيا ، فقد وُجد أنّ % 8 من بين الجماجم المحفوظة في مقابر فجر-تاريخية و بونية هي لأناس مشتويين (Mechtoïdes) [ شاملا 1976]، وحتّى في الفترة الرومانية التي أشبعت بحثا من قبل الأركيولوجيين الكلاسيكيين، وجدت العديد من الجماجم في شرقي الجزائر تحمل خصائص مشتوية، وحتّى في السكّان الحاليين يلاحظ وجود ملامح مشتوية تعود في أغلبها إلى النموذج المتوسّطي الذي يذكّر بالخصائص الرئيسية لإنسان المشتى، ويمثّل هؤلاء الآن حوالي % 3من الشمال أفريقيين الحاليين وهم أكثر حضورا في جزر الكناري.

نلاحظ ابتداء من الألف الثامنة ق.م. ظهور نموذج جديد في القسم الشرقي من الشمال الأفريقي [نجهل تماما ما حدث من تحوّلات على الصعيد الأنثروبولوجي في الحدود المصرية الليبية] للإنسان العاقل له العديد من خصائص السكّان المتوسّطيين الحاليين،فهو ذو قامة عالية (1,75 للرجل و1,62 للمرأة) ولكنّه يتميّز عن إنسان المشتى فهو أضخم منه قليلا، وأكثر انسجاما في تفاصيل الجمجمة: المحجران مربّعان والأنف ضيّق والهيكل العظمي أكثر خشونة، وزاوية الفكّ على الخصوص ليست مسحوبة نحو الخارج،والخلاصة أنّه ليس هناك كما يقول الأنثروبولوجيون قياسات خارجية (Extroversions des Gonions)، والواقع أنّ هذه الخصائص موجودة بكثرة وملحوظة عند إنسان المشتى،وقد صنّف هذا الإنسان ضمن البروتو-متوسّطي (Proto méditerranéen) كما وجدت في نفس الفترة البروتومتوسطية مجموعات قريبة منه أنثروبولوجيا في الشرق الأدنى [الناطوفيون] وفي جميع جهات البحر المتوسّط ويبدو أنّه انحدر منه نوع كومب كابال (Combe Capelle) الذي يسمّى في أوربّا الوسطى بإنسان برنو (Brno) المتميّز عن إنسان كرو-مانيون،وفي هذا المجال يقترح فرمباخ وجود سلالة شبيهة بالكومب كابال خلال الباليوليثي الأعلى في الشرق الأدنـى .

في نظر شاملا(M. C. Chamla) يمكن التعرّف ضمن البروتومتوسّطيين على نوعين هما :

-نوع واسع الانتشار،وهو تحت-نوع،ذو جمجمة قويمة الأجزاء (Orthognathe).

-نوع أقلّ انتشارا وهو نوع عين دكّارة ، فيه بعض سمات الزنوجة .

هذان النوعان هما حاملان لصناعة قبل-تاريخية هي الصناعة القفصية وكما هو معروف فإنّ القفصي يغطّي فترة أقلّ من الإيبروموري، ويمتدّ من الألف الثامنة إلى الألف الخامسة .

تمّ الحصول على معلومات هامّة عن القفصيين وعن نشاطاتهم، بفضل المواقع العديدة المسمّاة رماديات أو محلزات(Escargotières)، وامتدّت حضارتهم على قسم كبير من تونس والجزائر الحاليتن، ومن خلال الأدوات القفصية التي تمّ العثور عليها [ نصيلات وسكاكين و أزاميل ذات أشكال مختلفة…] وخاصّة الأعمال الفنّية ذات الأهمّية البالغة في نظر الأثريين والأنثروبولوجيين على السواء وهي الأعمال الفنّية الأقدم في عموم أفريقيا القديمة ، ويمكن القول بأنّها أصل الأعمال الفنّية الرائعة في النيوليثي،وهي –وهذا هو الأهمّ- أصل الفنّ الأمازيغي، فهناك تقارب بين الديكورات القفصية والنيوليثية،لايزال الأمازيغ يستخدمون بعضا منها في الوشم وفي النسيج وفي زخرفة الفخار وحتّى على الجدران، والواقع أنّ ما نراه اليوم من ديكور زخرفي فطري عند الأمازيغ لا يمكن أن نعيده فقط إلى الديكور الهندسي،بل لا بدّ من ربط حلقات التاريخ ببعضها لاكتشاف استمرارية بشكل أو بآخر من فجر التاريخ إلى العصر الحديث .

نأتي الآن إلى القفصيين البروتومتوسّطيين وهم الشمال أفريقيون الأوائل الذين يمكن –بشيء من الحذر- وضعهم على رأس قائمة السلالة الأمازيغية وهذا منذ 9000 سنة، ولا بدّ من التأكيد هنا بأنّ كلّ محاولة توفيق مقبولة لجعل هؤلاء القفصيين ذوي أصول شرقية تصطدم بكون هذا المجموعة متوسّطية مثلها مثل الناطوفيين، وأنّ بعض الملامح الثقافية عند الناطوفيين أنفسهم ذات تأثّر قفصي، وفي حالة حدوث هجرة من الشرق، فإنّ تلك الهجرة قديمة جدّا ومن المبالغة القول بأنّ الأهالي منحدرون منها، لأنّ المشتويين الأوائل تركوا آثارهم ، وإذا وقع هناك بعض التشابه في تقنيات الصناعة الحجرية فإنّ ذلك غير كاف للتدليل على تقارب أو وحدة السلالة هنا وهناك،وحتّى لو افترضنا أنّ المشتويين والبروتومتوسّطيين قد تمركزوا في منلطق واحدة، فإنّ هؤلاء المشتويين استمرّوا إلى النيوليثي حتّى في القسم الشرقي الذي تقفّص (Capsianisé)، ولا توجد دلائل على الاختلاط بالتزاوج والتهجين،وإذا كان الأنثروبولوجيون قد لاحظوا استمرار الملامح المشتوية عند بعض السكّان السابقين لوصول البروتومتوسّطيّين فإنّ ذلك لايمكن تفسيره إلاّ بتطوّر ذاتي يستجيب لظاهرة نحافة عامّة.

إذا عبرنا إلى النيوليثي،لا نجد تغيّرا كبيرا في التطوّر الأنثروبولوجي في الشمال الأفريقي، بل نلاحظ استمرار نوع المشتى في الغرب وامتداده نحو الجنوب على طول الساحل الأطلنطي،في حين كان باقي الصحراء على الأقلّ جنوبي مدار السرطان آهلا بالزنوج،وقد انتشر البروتو- متوسّطيون تدريجيا، ومع فجر التاريخ نلاحظ أنّ الأشخاص الذين دفنوا في التملوس وباقي المدافن الميغاليثية هم من النوع المتوسّطي مهما كان موقع دفنهم،ما عدا في الجهات الجنوبية حيث يتمركز العنصر الزنجي،ومن هنا نستخلص أنّ الشمال الأفريقي أصبح منذ فجر التاريخ متوسّطيا أو بالأحرى متمزّغا .

يلاحظ أنّ بعض هؤلاء المتوسّطيين ذوو قامة قصيرة، وأقلّ تعضّلا، وعظامهم أقلّ سمكا، وفي كلمة واحدة يبدون أكثر نحافة، والواقع أنّ العنصر المتوسّطي يتضمّن أشكالا مختلفة ما بين المتوسّطي العملاق والمتوسّطي النحيف غير أنّه لا يمكن الفصل بين هؤلاء وهؤلاء لأنّهما من نفس النوع وهو : فرع متوسّطي لايزال إلى اليوم، فالصنف الأوّل يمثّل : فرع أطلنطي متوسّطي، يظهر بجلاء في أوربّـا من إيطاليا الشمالية إلى بلاد الغال، والثاني ويسمّى الإيبــرو-جزري (Ibéro-Insulaire) ويشغل اسبانيا الجنوبية والجزر المتوسّطية وشبه الجزيرة الإيطالية .

في أفريقيا الشمالية يوجد هذا الصنف من تحت-نوع على نطاق واسع في المنطقة التلّية، وعلى الخصوص في الجبال الساحلية في شمالي تونس وفي بلاد القبايل وفي الريف، في حين لا يزال النوع العملاق عند الأمازيغ الرحّل في الصحراء (التوارق) وفي مجموعات الرحّل المستعربين (الرقيبات) وعند المغاربة في وسط المغرب وجنوبه (آيت عتّا والشلوح) ولكن توجد نفس الأنواع مع بعضها إلى يومنا هذا في نفس المناطق مثل بلاد القبايل، ففي دراسة حديثة لشاملا تبيّن أنّ النوع المتوسّطي يلتقي في %70 من السكّان ولكن ينقسم إلى ثلاث تحت-نوع هي:

أوّلا ، فرع أوّل :

-إيبرو-جزري(Ibéro Insulaire) ذو قامة قصيرة أو متوسّطة بوجه صغير وطويل.

– أطلنطي- متوسّطي ، وهو أضخم وذو قامة طويلة .

– صحراوي ، وهو أقلّ انتشارا (15%) ذو قامة طويلة، ووجه طويل.

ثانيّا ، فرع ثاني :

– ألبي ، ذو وجه صغير وقامة متوسّطة يمثّل حوالي 10 % من السكّان.

ثالثا ، فرع ثالث :

-أرمني يمتاز بوجه طولي ، وجمجمة عريضة (Brachycéphale) .

وإلى جانب هذا المخزون يضاف بعض الأفراد الذين يحتفظون بملامح مشتوية ، وبعض المولّدين المنحدرين من عناصر زنجية أقدم.

إنّ هذه النماذج تظهر تنوّع تعمير الشمال الأفريقي، ولكن ينبغي التنبيه إلى أنّ العصر الذي كانت فيه الملامح العرقية هي الهدف الأسمى للبحث الأنثروبولوجي قد ولّى، وينبغي أن نفهم بأنّ العنصر الأصلي ظلّ يدمج ضمنه على امتداد التاريخ عددا من الأعراق والأنواع وتبيّن الأبحاث الحالية في العالم كلّه كيف أنّ الإنسان كان في جسمه قابلا للتغيّر وحسّاس للتغيّرات ، وخاصّة الاستعداد للتكيّف مع ظروف الحياة ، والملاحظ أنّ نمو القامة في الأجيال الثلاثة الأخيرة هو ظاهرة محسوسة ومعروفة في الرأي العامّ ويسهل قياسها بفضل أرشيف مكاتب التجنيد .

تظهر أعمال أخرى بأنّ شكل الجمجمة قد تغيّر بسبب وراثي كما يقول البيولوجيون دون أي عامل طارئ أو أجنبي،وهذه القابلية للتطوّر والحساسية للعوامل الخارجية يظهر في شريط الحياة ومنه يبدو أنّ التحوّل الوراثي الذي يقول به الأنثروبولوجيون كاف لتفسير التحوّلات البيولوجية دون الحاجة إلى أساطير الهجرة والغزو في تكوين السكّان التاريخيين، ولذلك تصبح مسألة التطوّر المحلّي مقنعة ومقبولة جدّا، أمّا ظهور نوع الإيبرو-جزري داخل مجموعة متوسّطية أفريقيّة فيفسّر بسبب نحافة بسيطة ، ولم تظهر اختلافات في الشكل بين جماجم العهود القفصية والبروتومتوسّطية والحديثة .

يكوّن البروتومتوسّطيون القفصيون بالتأكيد قاعدة التعمير الحالي في الشمال الأفريقي ، ويحاول البعض ربط هذا التعمير بحركة تعمير كلّ البلاد المتوسّطية مع افتراض أنّ منطلق تلك الحركة في عصور ما قبل التاريخ هو شرقي البحر المتوسّط ، مستدلاّ بأنّ تلك الحركة ليست الأولى ، فلقد ظلّ النزوح من شرقي المتوسّط نحو الغرب قائما وهو ما سمّي في المراحل التاريخية بالغزو أو الفتوحات، وتظلّ الفكرتان؛ فكرة الأصول المحلّية والأصول الخارجية تصطدمان ببعضهما ، ويشير الأنثروبولوجيون إلى أنّ البحث في أصل النباتات الزراعية والحيوانات المستأنسة يمكن أن يقيم الدليل على قوّة إحدى الفكرتين لأنّ وجودها يفسّر إمّا بجلبها من قبل محلّيين أو مجيء أجانب بها .

في عصر المعادن ظهر في الصحراء الطرابلسية مربّو الخيول وسائقو العربات وهم فرسان فتحوا الصحراء وسيطروا على الزنوج (الأثيوبيين) هؤلاء الفرسان يسمّيهم المؤرّخون الإغريق واللاّتين الغرامنت (Garamantes) شرقا والجيتول (Gaetulii) في الوسط والغرب وأحفادهم هم أمازيغ الصحراء الذين سيطروا طويلا على الحرطانيين الذين يبدو أنّهم أحفاد أولئك الأثيوبيين.

نلاحظ خلال فترات الاحتلال الروماني ثمّ الوندالي والبيزنطي حركة كبيرة للقبائل الثائرة خاصّة خارج الليمس الروماني ثمّ في الأراضي ذاتها التابعة للإمبراطورية مثل الكونفدرالية القبلية التي سمّاها الرومان ليواتاي (Levathae) التي كانت متمركزة في القرن السادس في إقليم طرابلس،هذه القبيلة التي ذكرتها المصادر العربية باسم لواتة سوف يمتدّ تمركزها في القرون الوسطى لتستقرّ في المنطقة ما بين أوراس وورشنيس،وهي تنتمي مع عدّة قبائل أخرى إلى المجموعة الزناتية،وهي المجموعة الأحدث ضمن المجموعات الناطقة بالأمازيغية، وتتميّز أمازيغيتها بوضوح عن أمازيغية المجموعات الأقدم التي يمكن تسميتها بقدامى الأمازيغ (Paléoberbères)، وقد أحدث هؤلاء الزناتيون اضطرابات كبرى تضاف إليها الاضطرابات السياسية الدينية والاقتصادية التي ضربت المقاطعات الأفريقية،وسيكون ذلك لصالح آلة الفتح العربي إلى درجة كبيرة،وبعد أربعة قرون من ذلك يأتي اكتساح بدو هلال وسليم ومعقل، الذي ما هو إلاّ حلقة في سلسلة طويلة من الاكتساحات بدأت منذ آلاف السنين،وإذا كان سكّان الشمال الأفريقي قد احتفظوا نتيجة لذلك بتواصل طبيعي بقدر ما هو ثقافي إزاء الشرق الأدنى فإنّ هناك تيّار ثان شمال-جنوب يتقاطع مع الأوّل وهو تيّار قويّ طبع هذه البلاد الغربية بقوّة .

ظهر التيّار المتوسّطي منذ النيوليثي ، فساحل بلاد البربر عرف خلال ذلك نفس الثقافات التي عرفها البحر المتوسّط الغربي مثل أسلوب صناعة الفخار، وقد ظهرت في منطقة الريف تقنيات متميّزة تحاكي الأشكال الصدفية الأوربية، وإلى الشرق تنتشر صناعات مقلّدة قادمة من الجزر الإيطالية في عهود أحدث، ويمكن تفسير توزّع الأوابد الجنائزية كالدولمان والقبور تحت الأرض (Hypogées) بوجود تمركز دائم لمجموعة أو مجموعات متوسّطية قدمت من أوربّا،وهذه مساهمة متوسّطية لها أهمّية ثقافية أكثر منها أنثروبولوجية،ولكن إذا كان لبعض العناصر الثقافية أن “تسافر” لوحدها لأنّها أقلّ التصاقا بالعرق، فلماذا يفترض أنّها على الآرض الأمازيغية من أعمال مجموعات وافدة من أوربّا، فالمرجّح أنّ هذه الأشكال والطقوس الجنائزية تكون قد عبرت مضيق صقلّية وانتشرت في شرق الشمال الفريقي القديم دون الحاجة إلى أن ينقلها وافدون من خارج المنطقة الشمال أفريقيّة.

لا نودّ هنا أن نختصر الدور الأساسي للمجموعة البروتومتوسّطية ،ولكن لا يمكن أن نهمل تلك الإسهامات المتوسّطية الأحدث التي لها أهمّية كبرى على الصعيد الأنثروبولوجي ولكنّها أكثر ثراء فيما يتعلّق بالصعيد الثقافي،ونضيف إلى هذين العنصرين الرئيسيين إسهامات ثانوية قادمة من إسبانيا ومن الصحراء التي سادت فيها عبرالقرون حضارات سكّان الريف في المغرب.

أهمّية الدراسات الألسنية

ما لا يمكن إغفاله في هذا السياق هو إسهامات الدراسات الألسنية في محاولة لتحديد أصول الأمازيغ في سياق كون اللغة هي الطابع الأكثر أصالة اليوم ، وأكثر ما يميّز المجموعات الأمازيغية المتوزّعة في الربع الشمالي الغربي من القارّة الأفريقية .

كيّفت اللهجات (Idiomes) الأمازيغية و”بربرت أو مزّغت” بسهولة عددا من المفردات والأصوات الأجنبية،إذ نجد فيها كلمات لاتينية (14) وعربية كثيرة (% 35 من القاموس القبايلي عبارة عن كلمات عربية(15) إلى جانب كلمات فرنسية واسبانية…، والمحتمل أنّ اللغة الليبية أيضا كانت عرضة لاكتساح كلمات من لغات مجاورة لها، ولكن ينبغي أن نكون حذرين فقد يكون التقارب أحيانا بسبب الصدفة بين الأمازيغية ومختلف اللغات القديمة ، لا كما يعتقد بعض الهواة والكتّاب الجريئين، وفي هذا السياق لم يترك المهتمّون أيّ اتّجاه إلاّ وسلكوه، فبرتولون (Bertholon) يقول بأنّ اللغة الليبية هي لهجة هلّينية نقلها التراقيون (Thraces) والبعض الآخر يرى فيها آثار اللغة السومرية أوالطورانية، وأخيرا وضع البعض النموذج الأصلي الباسكي كقاعدة مشتركة تضمّ الليبي-البربري ، ولكن بمسوّغات ساذجة أحيانا ، أمّا هواة بداية القرن العشرين ، فكانوا يعتقدون في الواقع أنّهم يستطيعون تأسيس تقارب لغوي ضمن سلسلة طويلة من المصطلحات المعجمية موازية لقائمة من اللغة المقارنة، إلاّ أنّ بعض هذه المقاربات لا يخرج عن إطار الفضول.

يدلّ هذا الاستعراض على الحذر المنهجي الذي يلازم بعض المتبربرين (Berbérisants) حيث يشير يعضهم أنّ : “… مفهوم اللغة الأمازيغية السائد هو أنّها لغة أهلية،وهي اللغة الأهلية الوحيدة منذ ما قبل التاريخ،والواقع أنّ اللغة الأمازيغية لم تكن أبدا لغة دخيلة،ولم نجد في تاريخ بلاد البربر إشارة إلى ظهور واختفاء لغة أهلية(16).

لا تزال النقوش الليبية رغم قرن من الأبحاث وعدد هامّ من الباحثين لم تُفَكّ –في قسم منها- نصوصها، مثلما أشار إليه الباحث سالم شاكر (1973) رغم امتلاك الباحثين لعدّة امكانيات مساعدة، مثل: الكتابات المزدوجة البونية-الليبية، واللاتينية-الليبية، ومعرفة البنية الحالية للّغة، وكلّ المعطيات التاريخية: أسماء الأماكن والأشخاص، شهادات المؤلّفين العرب… التي تؤكّد انتماء وانحدار الأمازيغ من الليبيين .

نأخذ الحجّة السلبية التي دحضها باسي Basset، ونتساءل إلى أيّ درجة يمكن أن نحدّد المسألة لو أنّ الليبي ليس الشكل القديم للأمازيغي ومنه نصل إلى أنّنا لا يمكن أن نعرف متى وكيف تكوّنت اللغة الأمازيغية.

تفسّر أسباب الفشل المتعلّق بالدراسات الليبية ببساطة في أنّ المتبربرين قليلون وهم مهتمّون بجرد مختلف اللهجات الأمازيغية المحلّية، ولم يركّزوا بعد على اللغة الليبية، ويعتبرون أنّ كتابتها المقولبة غير ذات أهمّية،أمّا الهواة أو الجامعيون غير المتبربرين المهتمّين بالنصوص الليبية بسبب قيمتها التاريخية أو الأثرية فإنّهم غير مزوّدين بوسائل البحث في هذا المجال، وفي الأخير فإنّ المنظومة الكتابية الليبية الخالية من الحروف الصويتة (Voyelles) لا تساعد الباحث على إعادة التركيب الكامل للغة .

لقد كان تصنيف اللغة الأمازيغية ضمن عائلة لغوية مجاورة مبكّرا، ونستطيع القول أنّ ذلك قد تمّ منذ شامبوليون (1838) وقد حدّد فنتور دو بارادي (Venture de Paradis) قرابتها باللغة المصرية القديمة في كتابه: معجم اللغة البربرية (Le Dictionnaire de La Langue Berbère) ، كما قد عمل عدد أكبر على إقامة الدليل على قرابتها باللغات السامية ، وانتظرنا تقدّم الدراسات عن السامية القديمة ليقترح م. كوهين (M. Cohen) في 1924 إلحاق الأمازيغية بعائلة اللغات المسمّاة : حامية-سامية (Chamito sémitique) التي تضمّ المصرية (والقبطية التي هي الشكل الحديث للمصرية القديمة) والكوشية والسامية ، وكلّ مجموعة من هذه المجموعات اللغوية لها أصالتها ، ولكن لكلّ منها قرابة بالأخرى كما يرى كوهين والباحثون الذين جاؤوا من بعده(17).

إنّ هذا التوازي لا يقوم على مجرّد مقارنات معجمية،بل يدرس بنية اللغة مثل منظومة الأفعال والتصريف،والأصل الثلاثي للكلمة ، في حين أنّ الكثير من الكلمات في الأمازيغية ذات جذر من حرفين فقط ، وقد أرجع البعض ذلك إلى مجرّد حذف فوني وهو كثير في الأمازيغية، كما لاحظ كلّ المختصّين، وهذه “التعرية” الصوتية ظاهرة ملفتة تجعل من الصعوبة إقامة مقارنة معجمية باللغة السامية وهو ما يجعل طروحات الأصول السامية متجاوزة الآن ، وذلك ما أغفله المتبربرون(18) في السابق، ومهما يكن فإنّ القرابة الملحوظة داخل المجموعة الحامية – السامية بين الأمازيغية والمصرية والسامية ، تؤكّد بعض المعطيات الأنثروبولوجية التي تدعّم فكرة تفرّع الأصول البعيدة للأمازيغ والفراعنة عن أصل واحد مشترك .

تقوم في أفريقيا الشمالية اليوم دول ترفع شعار الانتماء المزدوج إلى الأمّة الإسلامية وإلى العالم العربي بالتساوي، وهذه البلاد بعد تقلّبات الزمن وتوالي الأحداث – ظلّت إلى نهاية القرون العتيقة منتمية بالتأكيد إلى العالم المسيحي وإلى الأمّة اللاّتينية – ها هي تتحوّل تحوّلا ثقافيا جذريا مع أنّ هذا التحوّل لم يرافقه تحوّل عرقي هامّ فالشعب هو الشعب، وهؤلاء الأمازيغ الذين كان البعض منهم يظنّ أنّه روماني هم أنفسهم الذين يشعر أغلبهم اليوم أنّهم عرب.

كيف يمكن تفسير هذا التحوّل الذي يبدو عميقا ودائما في بعض الجهات الشمال أفريقية، مع أنّه لم يشمل كلّ البلاد، إلى درجة أنّ بعض الجهات التي تجذّر فيها الإسلام تماما لا تعتبر نفسها عربية بل وتطالب اليوم بترسيم ثقافتها الأمازيغية ؟ (19).

ينبغي في المقام الأوّل التمييز ما بين الإسلام والعروبة (Arabisme) ومع أنّ الفكرتين إحداهما دينية والآخرى عرقية سوسيولوجية إلاّ أنّهما قريبتان من بعضهما، لأنّ الإسلام ظهر بين العرب ونشر من طرفهم في البداية، ولكن يطرح إشكال آخر هو كيف نفسّر وجود شعوب عربية أو مستعربة في الشرق الأدنى استمرّت على مسيحيتها، وبالمقابل هناك عشرات الملايين من غير العرب ولا حتّى من المستعربين: الزنوج، الأتراك، الإيرانيون، الأفغان، الهنود … ولكنهم من أشدّ المسلمين تمسّكا بالإسلام مع تمسّكهم أيضا بلغاتهم وهوياتهم القومية، ألم يكن في إمكان الأمازيغ – على غرار الفرس والأتراك – أن يكونوا مسلمين وأن يحتفظوا في نفس الوقت بثقافتهم وشخصيتهم كما هي، بل ويحتفظون كذلك بلغتهم ونظمهم الاجتماعية، لعلّ ذلك كان سهلا لأنّهم كانوا أكثر عددا من بعض الشعوب التي حافظت على هويتها ضمن الأمّة الاسلامية خاصّة وأنّهم أبعد عن مركز الإسلام الأول ؟ (20).

كيف يمكن أيضا تفسير أنّ المقاطعات التي كانت قد تمسّحت تماما مثل باقي مقاطعات الإمبراطورية الرومانية وكانت لها كنائس رائدة، تُسْلِم تماما، في حين تستمرّ شعوب على أبواب بلاد العرب(Arabie) على مسيحيتها: الأقباط في بلادالنيل والموارنة في لبنان والنسطارة واليعاقبة في سوريا والعراق؟، وللإجابة على هذه التساؤلات ينبغي أن يعود المؤرّخ إلى ما وراء الأحداث، فالفتوحات العربية في القرن السابع قد أسلمت البلاد حقّا ولكن لم تعرّبها، فالتعريب تمّ في مراحل لاحقة وعلى امتداد قرون وهو مستمرّ ولم ينته بعد، لأسباب عميقة جدّا، والواقع أنّه منذ الفتح العربي يبدأ سيناريو من نوع آخر(21).

احتلّت روما أفريقيا، وترومنت المقاطعات التي أقامتها بها: أفريقيا ، نوميديا والموريتانيات الثلاث، بدرجات متفاوتة، وكانت أفريقيا ونوميديا على الخصوص آهلتين بالسكّان وفيهما عمران مزدهر(22)، وكانت المقاطعات الموريتانية في المقام الثاني ولم يتجاوز فيها الاحتلال الروماني المنطقة التلّية، أمّا في نوميديا وإقليم طرابلس فكان التوسّع الروماني قد وصل أعماق الصحراء ، ولذلك ستنتقل الانتفاضات الأمازيغية منذ القرن الأوّل الميلادي إلى موريتانيا بعد أن تمّ إخضاع المقاطعات الأخرى تماما .

لا ريب أنّ روما نجحت خلال أربعة قرون بفضل منظومة معقّدة من استحكامات خطّ الليمس في مراقبة تنقّل السكّان إلى التلّ وإلى المناطق المستزرعة، وكان ذلك نظاما راسخا يتوفّر على خنادق وأسوار تسدّ المعابر وعلى قلاع حراسة تعلو المرتفعات،ومزارع محصّنة وحاميات في الحصون وقد عثر روبيفا(Rebuffat) الذي نقّب في أحد معسكرات الليمس (بونجم في إقليم طرابلس) على أرشيف عبارة عن شقوف(Tessons) بسيطة أشير فيها إلى أحداث صغيرة في عدّة كلمات هي:عبَر عدد من الغرامنت في مهمّة يسوقون حميرا (Garamantes ducentes asinus…)، فمنذ القرن الثاني كان الغرامنت يجلبون سلعا رومانية مثل: الجرار والمزهريات الزجاجية والحلي إلى قصورهم النائية في الفزّان،كما أنّ هناك أضرحة لأمراء وأعيان جرمة( ) (Djerma, Garama) عاصمة الغرامنت، قام معماريون رومان بتشييدها، وكان هناك جنود ومساعدون يجوبون الطريق الممتدّة من المقاطعة الرومانية إلى عمق بلاد الغرامنت،وكانت تلك الطريق مزوّدة بصهاريج المياه ومراكز عسكرية تمتدّ حولها مزارع صغيرة لتأمين حاجتها من الغذاء .

بعد ثلاثة قرون من ذلك ينهار الاحتلال الروماني بسبب اعتماده سياسة القهر والاستغلال في حقّ الأهالي، وهي السياسة التي ثار ضدّها الشعب الأفريقي وتتحوّل تلك الصحراء الهادئة إلى ألسنة لهب يخرج منها محاربون شرسون نحو المقاطعات الرومانية،هم اللواتاي (Levathae) الذين سمّاهم العرب: البتر (El Botr) ثمّ سمّوهم بعد ذلك: لواتة ، وهم بدو جمّالة قدموا من قورينائية وخاضوا مقاومة عنيفة ضدّ البيزنطيين بقيادة زعيمهم كاباوون (Cabaon) جنوب المزاق (Byzacene) ، ولكنهم اندمجوا نهائيا في هذه المناطق الجديدة ، وانضمّوا إلى متساكنيهم الجدد الذين جمعتهم بهم مقاومة البيزنطيين وانخرطوا في العمل الفلاحي واستمرّ الازدهار في البلاد إلى عشية الفتح العربي حيث وجد الفاتحون بلادا مزدهرة،وخاصّة غابات الزيتون التي لا تزال آثار معاصر الزيت تدلّ على ازدهارها في بلاد هي اليوم جافّة وقاحلة.

آليات الاستعراب

إنّ العامل الثاني الذي أدّى إلى انقلاب جذري في البنية السوسيولوجية لأفريقيا الشمالية هو الفتح العربي، فقد يسّر ضعف البيزنطيين -الذين دمّروا مملكة الوندال- ذلك الفتح، غير أنّ أفريقيا البيزنطية لم تكن مثل أفريقيا الرومانية، فقد وجد البيزنطيون بلادا كانت مسرحا للفوضى على امتداد قرنين، واجتمعت عليها عوامل عديدة دمّرتها اقتصاديا واجتماعيا منذ نزول الوندال بها (429) ولم تكن مملكة الوندال تتجاوز تونس الحالية وجزءاً صغيرا من شرق الجزائر الحالية، يحدّه غربا وجنوبا إقليم قسنطينة، والأوراس الذي استقلّ تحت حكم قبلي محلّي.

منذ نهاية حكم تراساموند (Thrasamond) [حوالي 520]، دخل رحّل زناتة (Les Zénètes Nomades) إلى المزاق (Byzacene) تحت قيادة ملكهم كاباوون (Cabaon) ومنذئذ سيفرض هؤلاء على الوندال ثمّ البيزنطيين من بعدهم حالة الدفاع ضدّ هجومات أولئك الزناتيين ويروي لنا آخر كاتب أفريقي باللاتينية وهو كوريبوس (Corippus) في ديوانه : JOHANNIDE المعارك التي كان على رأسها القائد البيزنطي حنّا تروغليتا( Jean Troglita ) ضدّ تلك القبائل الزناتية الشرسة، الحليفة للموريين في الداخل، فلقد كان بربر لواتة هؤلاء (Laguantan = Levathae = Louata ) على وثنيتهم يعبدون إلها في شكل ثور يسمّى قورزيل (Gurzil) وإله حربي هو ( Sinifère)، وكانت جمالهم تنفّر خيول الفرسان البيزنطيين، وكانوا يحاربون فوق جمالهم ومعهم نساؤهم وأطفالهم خلال تنقّلاتهم في السلم والحرب .

كان باقي أفريقيا الذي يسمّيه كورتوا (C. Courtois) أفريقيا المنسية، يتمثّل في الموريتانيات الثلاث –التي كانت على ما يبدو- تعيش في ظلّ حكم قبلي،ولا نعرف عنها خلال القرنين الأخيرين إلاّ بعض أسماء القادة، وبعض الأوابد الجنائزية [الجدّاراتDjeddars قرب فرندة، ضريح الغور (Gour)قرب مكناس] ونقوش ماستياس (Masties) في أرّيس الذي أعلن نفسه ملكا، وماسونا (Masuna) في آلطاوة (Altava) الذي أعلن نفسه أيضا ملكا على الشعوب المورية والرومانية ومن خلال بحثنا في ثنايا النصوص التي تركها مؤرّخون مثل بروكوب(Procope) وفي بعض النقوش نستخلص بأنّ الاستقرار لم يكن متوفّرا حتّى في تلك المقاطعات ” المحرّرة ” .

كانت النزاعات الدينية سببا آخر للفوضى، ولم تكن أقلّ شراسة من مثيلاتها في الشرق، فقد قاومت الكنيسة النحل المنشقّة عنها مثل الدوناتية، فأضعفها ذلك، وكان الاضطهاد الديني فظيعا خلال الحكم الوندالي ولا يعادله إلاّ اضطهاد ديوكليتيانوس للمسيحيين الأوّلين لأنّ الوندال جعلوا مذهبهم (الأريوسي) مذهبا رسميا،وإذا كانت الأرثوذكسية قد استرجعت بعض الطمأنينة منذ عهد هلديريك (Childéric) فإنّ الكنيسة الأفريقية كانت تعاني الضعف كما يبيّن مجمع 525، بعد وفاة القدّيس أوغسطين، فقد اختفت عدّة أبرشيات، وأدت الخصوصيات الإقليمية إلى تكريس الانقسام، في غياب الامبراطورية(23).

كان “الاسترداد” البيزنطي قد جلب الخراب إلى المنطقة ، فقد أدخل إلى أفريقيا النزاع حول طبيعة المسيح، ومنذ يوستينيانوس تبدأ الفترة البيزنطية في أفريقيا،وهو الامبراطور الذي حاول تهدئة الأوضاع وإنهاء النزاع والجدل الديني، فحوكمت الطبيعة الواحدة واعتبرت هرطقة جديدة، وفي الوقت الذي بدأ فيه الفتح العربي يبدأ نزاع جديد في عهد الامبراطور كونسطان الثاني (Constant II) وهو النزاع الذي مزّق أفريقيا المسيحية (648) وفي نفس الوقت نمت التعقّدات السوسيولوجية وبالتالي العرقية ، فهناك الأفاريق أو الأمازيغ المترومنون في المدن والأرياف وحتّى في عمق البلاد أحيانا، كالمجتمع الريفي الذي تعرّفنا عليه بفضل ألواح ألبيرتيني (Tablettes d Albertini) وهو أرشيف توثيقي منقوش على ألواح من الأرز عثر عليه بجهة تبسّة،وهناك المور(Maures) غير المترومنين المنحدرين من قدامى البربر (Paléoberbères) يضاف إليهم بدو زناتة (Zénètes) ولواتة وأشتات الوندال والجهاز العسكري والإداري البيزنطي وهو من الشرقيين الأغارقة والسوريين ، هذا المجتمع أصبح تدريجيا منقسما إلى إمارات محدودة في بلد غير منظّم وممزّق ومفقّر ، وفي هذه الظروف ظهر الفاتحون العرب.

نعرف أنّ الفتح العربي لم يكن محاولة استعمارية أي لم يكن استيطانا بل كان في شكل سلسلة عمليات عسكرية لا غير، وفيها اختلط الميل إلى الحصول على الغنائم مع روح تبشيرية، كما أنّها لم تكن نتيجة بطولة مسحت كلّ من يعترضها بحدّ السيف كما تصوّرها الكتب المدرسية.

توفّي النبي (ص) في 632، وبعد عشر سنوات كانت جيوش الخليفة تخضع مصر وقورينائية (انطابلس تحريف لبنطابوليس) وفي 643 دخلت تلك الجيوش إقليم طرابلس يقودها عمرو بن العاص، وبعده قام ابن سعد (ابن إبي سرح) بالإغارة على جنوبي إفريقيّة(تحريف عربي لـ:أفريكا) في وقت كانت فيه علاقة البيزنطيين بالأمازيغ في اضطراب، وكانت تلك الغارة تستهدف ثروة البلاد وتستفيد من ضعفها، ويصف المؤرّخ النويري كيف أنّ عربيا بسيطا ومسلّحا بسلاح بسيط من قبائل بدوية ينطلق من المدينة في أكتوبر647 في فيلق لا يتجاوز5000 رجل، أضاف إليه ابن سعد حاكم مصر 15000 فأصبح معه 20000 وهو عدد الجيش الإسلامي الذي سيحارب البيزنطيين في معركة سبيطلة (Suffetula)حيث قتل القائد البيزنطي غريغوار ونهبت البلاد،وأخذ الفاتحون غرامة ثقيلة من المدن الأفريقية البيزنطية،وانسحبوا راضين عن النتيجة التي حقّقوها(648)إذ لم يكن للعملية هدف غير الذي حقّقته ودامت14 شهرا.

إنّ الفتح الحقيقي حدث في عهد معاوية الذي عيّن على رأس جيش إفريقيّة معاوية بن حديّج في 666 وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ أسّس عقبة القيروان، أوّل مدينة إسلامية في الشمال الأفريقي وحسب النصوص العربية على اختلافها وتعدّدها فإنّ عقبة خلال ولايته الثانية ضاعف الهجومات غربا واحتلّ لمباز Labaesis (تازولت) التي كانت في وقت مضى قاعدة الفيلق الثالث وعاصمة نوميديا العسكرية الرومانية، ثمّ قصد بعد ذلك تاهرت قرب تيارت الحالية ، ثمّ واصل إلى طنجة حيث وصف له يوليان بربر السوس (الجنوب المغربي) “بأنّهم شعب بلا دين يأكلون الجثث ويشربون دماء حيواناتهم ويعيشون مثل الحيوانات لأنّهم لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه”، فقصدهم عقبة وسحقهم وسبى نساءهم وكنّ أجمل نساء الأرض، ثمّ دخل البحر بحصانه قائلا كلمته التي ذكرتها النصوص العربية: ياربّ ، لو أنّي أعرف أنّ وراء هذا البحر … إلخ.

إنّ هذه النصوص لا تخلو من جانب أسطوري، وتضاف لها نصوص أخرى تجعل عقبة وصل إلى الفزّان قبل الذهاب إلى المغرب، وفي مسيرته إلى المغرب أخذ معه زعيم قبيلة أوربة البرنسية وهو كسيلة أسيرا، وأساء معاملته ممّا جعله وهو حديث عهد بالإسلام يثأر لكرامته ويسحق عقبة ومن معه خلال عودة هذا الأخير، جنوبي أوراس، ومن هناك يزحف كسيلة إلى القيروان ويحتلّها فينسحب من بقي فيها من جند الفاتحين إلى قورينائية (برقة)، وتتوالى الحملات العربية ويقتل كسيلة في إحداها،وفتح المسلمون قرطاج(693) وتأسّست تونس في 698 ولكن المقاومة لم تتوقّف،فقد قادتها امرأة من قبيلة جراوة (Iguerrouyen)( ) من المجموعة الزناتية المتمركزة في أوراس تسمّى ديهيا، اشتهرت بالاسم الذي روّجت له المصادر العربية وهو الكاهنة، وقتلت وهي تقاوم (700) وكان ذلك آخر مقاومة أمازيغية مسلّحة ضدّ الفاتحين، والواقع أنّه في 711 عندما عبر طارق المضيق الذي عرف باسمه لفتح اسبانيا، كان جيشه مكوّنا في الأساس من الأمازيغ (المور( ) Maures)، والخلاصة أنّ الفاتحين كانوا قلّة ولكن لم يجدوا أمامهم تعبئة دينية مناقضة تقاوم اكتساحهم بل وجدوا مجرّد “معارضين” تباعا : البطريق البيزنطي ثمّ القادة الأمازيغ ،إمارات وممالك ، قبائل ثمّ تحالفات قبائل أمّا العنصر الأمازيغي المترومن (الأفاريق) الذي كان داخل المدن الكثيرة، فلم تكن له على ما يبدو الفرصة ولا الإرادة في مقاومة الأسياد الجدد المبعوثين في مهمّة دينية ، ولم تكن الغرامة التي فرضها العرب عليهم (الخراج) أثقل ممّا كانوا يؤدونه للإدارة البيزنطية ، وقد بدت في شكل مساهمة في نفقات الحرب أكثر من كونها ضريبة قارّة ، أمّا عمليات السلب وجمع الغنائم التي قام بها فرسان الفتح فإنّها لم تكن لا أكثر ولا أقلّ احتمالا من تلك التي ظلّ المور(Maures) يقومون بدفعها على امتداد قرون للرومان والوندال والبيزنطيين ، وفتحت أفريقيا إذن ، ولكن كيف أسلمت وكيف استعربت؟.

لقد ذكرنا بأنّه ينبغي التمييز بين نشر الإسلام وفرض العروبة، والواقع أنّ الأوّل كان على وتيرة أسرع من الثاني ، فقد أصبحت بلاد البربر مسلمة في أقلّ من قرنين (السابع والثامن) في حين أنّها لم تستعرب نهائيا إلى اليوم على امتداد 14 قرنا ، بعد القرن الأوّل الذي شهد حملات الفتح العربي.

لقد كان نشر الإسلام هو التعريب الأوّل وكان ذلك في المدن ، فقد تمركز دين الفاتحين في المدن القديمة التي أخضعها المحاربون الموفَدون، ثمّ بعد ذلك الفقهاء الزائرون الذين تصدّوا لبثّ وشرح تعاليم الدين الجديد، وقد ساهم تأسيس المدن الجديدة لتكون مراكز دينية حقيقية مثل القيروان (670) وفاس (809) في ترسيم الإسلام في طرفي بلاد البربر .

إنّ تحوّل أمازيغ الأرياف من زناتيين وصنهاجيين وكتاميين… إلى الإسلام، يكتنفه الغموض، ولعلّ من الأكيد أنّهم كانوا مستعدّين لتقبّل التوحيد المطلق في الإسلام بسبب الجوّ الذي تكون قد هيّاته الديانات السابقة وعلى الخصوص المذهب الدوناتي الذي لا تشير المصادر إليه (24)، ولذلك يكون الإسلام قد بدا للأفريقيين كما بدا للمسيحيين الشرقيين في البداية في شكل أحد المذاهب المسيحية المنشقّة(25) أكثر من كونه دينا جديدا، ويفسّر ذلك بتعدّد الارتداد عنه الذي تحدّثت عنه المصادر العربية، ودون ريب فإنّ ذلك كان بسبب التقلّبات السياسية أكثر من أيّ شيء آخر، ولعلّ اعتناق رؤساء الاتحادات القبلية للدين الجديد في البدايات لأسباب سياسية في كثير من الأحيان أكثر من الاقتناع، أدّى إلى انتشاره بين العامّة، وكان تجنيد هذه العامّة في أعمال الفتوح بقيادة زعمائها القبليين أحد أقوى الأسباب في ترسيخ العقيدة الجديدة ، ولعلّ ممارسة أخذ الرهائن من بين أبناء رؤساء القبائل أحد الأسباب الأخرى ، فهؤلاء الرهائن ينشأون -في بيئة جديدة- على الإسلام واللغة العربية، وعند عودتهم إلى ذويهم يصبحون نموذجا بما تمنحه لهم ثقافة “أعلى” من بريق .

كان الدعاة الموفَدون من أبناء المذاهب المضطهدة في الشرق إلى الشمال الأفريقي، لأنّها كانت خطرا على المذاهب السنّية في القرون الأولى للإسلام، قد أسهموا في نشر الإسلام في صفوف القبائل خاصّة القبائل الزناتية، و”عزلوا” بعض الأمازيغ عن باقي المسلمين،وإذا كان المذهبان الصفري والإباضي قد تزعّما النزعة الاستقلالية للمسلمين الأمازيغ وخاصّة زناتة، فإنّ أتباعهما ظلّوا على الدوام قوّة دينية صغيرة ولكنّها نموذجية وصارمة في الإيمان وفي الأخلاق(26).

وفد على الشمال الأفريقي أيضا دعاة كبار لنشر المذهب الشيعي(27)،فقد كان الفقهاء وطلبة الدراسات الدينية يسافرون إلى أقاصي الأرض يتعلّمون ويلتقون كبار الفقهاء ويتكفّل بهم إلى أن يصلوا بدورهم أعلى مراتب الفقه، وقد يؤسّسون مذاهب خاصّة بهم، مثل ابن تومرت – مؤسّس حركة الموحّدين (1120) التي كانت قاعدة فكرية لإمبراطورية – وغيره.

الأمازيغ يعرّبون أنفسهم

كان الدعاة سعيا منهم للوصول إلى قلوب السكّان في الأرياف وفي المدن، يحرصون على الدوام على أن يجعلوا من الأمازيغ -الذين كان تديّنهم عميقا- حماةً للإسلام، وكانت الأربطة مثالا لذلك فهي أديرة وثكنات عسكرية في نفس الوقت،وقاعدة عمليات ضدّ الكفّار أو محرّفي الدين، ويمكن أن يشيّد الرباط داخل البلاد مثل رباط تازة أو على الساحل، وباختصار في أيّ مكان يستدعي الدفاع عن الإيمان. لقد كان أولئك الجنود-الرهبان يقيمون في تلك الأبراج يتدرّبون على القتال ويتعلّمون أصول الدين بصرامة، وكان القرن التاسع العصر الذهبي للأربطة في أفريقيا حيث تعدّدت الأربطة من طرابلس إلى بنزرت وخاصّة على ساحل المزاق ، وأشهرها رباط المنستير الذي بني في 796 ورباط سوسة (821) وفي الجهة الأخرى من المغرب على الساحل الأطلنطي بنيت أربطة لضمان الدفاع عن الإسلام عسكريا ومذهبيا ضدّ حملات النهب النورماندية وضدّ الهرطقات الدينية كالتي ظهرت في قبيلة برغواطة (28).

كان أحد هذه الأربطة من تأسيس – في وقت متأخّر – الموحّدي يعقوب المنصور، وسيصبح عاصمة المملكة الشريفية والذي احتفظ باسم الرباط العاصمة الحالية للمملكة المغربية، وكانت أصيلا شمالا وآسفي وقوز وخاصّة ماسات (Massat) جنوبا تكمّل الدفاع الساحلي في المغرب الأقصى(29).

كان المرابطون عبّادا وأهل صلاة، ومصلحين ذوي فعالية، وكان هؤلاء من قبيلتي لمتونة وقزولة (Guezoula) الصنهاجيتين من الصحراء الغربية(30) تحت القيادة الروحية لعبد الله بن ياسين الذي أسّس رباطا في جزيرة بالسينغال، وكان في بداية القرن الحادي عشر مبدأ الإمبراطورية المرابطية، أمّا في المناطق غير المهدّدة ، فقد فقد الرباط طابعه العسكري ليصبح مقرّ رجال الدين الموقّرين، وقد ظهرت بسبب ذلك إخوانيات(Confréries) “مقلّدة” للأنظمة الدينية المسيحية (Ordres Religieux) وهي تبدو الآن في شكل مراكز للدراسات الدينية (زوايا) وهي وريثة للأربطة القديمة واختلطت هذه الحركة أحيانا بالتصوّف الشعبي (Maraboutisme) وقد لعبت الحركة المرابطية دورا كبيرا في أسلمة (Islamisation) الأرياف مع الإبقاء على بعض الممارسات العقائدية السابقة للإسلام التي لا تضرّ بالإيمان (31) .

لقد أكملت هذه الزوايا أسلمة المناطق النائية من بلاد البربر والتي دخلها الإسلام متأخّرا وليس ضمن مجموعات الأمازيغ الجبليين المستقرّة التي لعبت دورا هامّا في الإسلام الشمال أفريقي مثل كتامة في القبائل الشرقية (Kabylie Orientale) ومصمودة في الأطلس المغربي، بل عند كبار الرحّل في الهقار البعيد وفي الصحراء الجنوبية، ولعلّ إسلام التوارق كان بفعل دعاة وصلوا بلادهم منذ القرن الخامس عشر لا غير، أمّا الغريب فهو أنّ هناك بلدا أمازيغيا لم يسلم أبدا وهو جزر الكناري الذي بقي سكّانه الأصليون على الوثنية إلى الغزو النورماندي والاسباني خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر .

لم يمح إسلام الأمازيغ نهائيا آثار المسيحية في أفريقيا،وقد أشار بعض المؤرّخين والجغرافيين العرب إلى استمرار وجود كنائس أفريقية عدّة قرون بعد الفتح العربي وهو موضوع اهتمّ به المؤرّخون أخيرا، فالملاحظ أنّ الممالك الأفريقية التي تكوّنت خلال الاحتلال الوندالي والبيزنطي كانت في أغلبها مسيحية، وقد صرّح الملك ماستياس بمسيحيته وأشار ملك الأوكوتاماني (Ucutamani) [كتامة في الكتابات العربية] إلى أنّه خادم الله (Servus Dei) وكان بناة أضرحة الجدّار قرب فرندة مسيحيين أيضا، مثل الملك مازونا (ملك المور والرومان) في موريتانيا حوالي 508، ومثله الملك ماستياس الذي سكّ عملة حوالي 535 ، أمّا الوثنية فقد بقيت بين الرحّل الذين كانوا يعبدون الإله قورزيل، وتدلّ كلّ المعطيات على أنّ قسما كبيرا من قدامى البربر في المقاطعات الرومانية القديمة كانوا قد تنصّروا في القرن السادس، دلّ على ذلك آثار الكنائس في المدن، وكذلك المقابر والكتابات الجنائزية وخاصّة في وليلي (Volubilis) التي تعود إلى النصف الأوّل من القرن السابع (595-655) وآلطاوة التي تعود إلى القرن الخامس ومثلها في بوماريا وآلبولاي (Albulae) التي كانت ضمن مملكة ماسونا، ولا نريد هنا أن نخلص إلى أنّ سكّان المدن وحدهم هم الذين تنصّروا، فلقد كانت لقرى ومدن صغيرة في نوميديا كنائسها،وهناك نصوص تشير إلى عدد هامّ من الأمازيغ المسيحيين في القرن السادس [حوالي 570] مثل نصّ حنّا بكتار (Jean de Bictar) الذي يشير إلى تنصّر الغرامنت والمكّوريين(Maccurites)، كما أنّ البكري سجّل أنّه في العصر البيزنطي كان الأمازيغ على دين المسيح، واتّضح للمؤرّخين الآن بأنّ بقاء طائفة من المسيحيين في صميم الفترة الإسلامية عدّة قرون هو من الحقائق الأكيدة، فقد دلّت عليها نقوش القيروان التي تعود إلى القرن الحادي عشر،وكذا كتابات مقبرة عين زارة في إقليم طرابلس،كما أشار لويكي (LEWIKI) إلى استمرار وجود طائفة مسيحية ضمن المملكة الإباضية في تاهرت أوّلا ثمّ في وارجلان، وأبرشية في قسطيلية في الجنوب التونسي،وقد احتفظت المستشارية الحبرية بمراسلة البابا غريغوار السابع إلى أساقفة أفريقيين في القرن العاشر،وكانت الاحتفالات بالأعياد المسيحية قائمة في العهد الزيري، كما أشار البكري إلى وجود مسيحيين وكنيسة في تلمسان خلال القرن العاشر، كما وجد ما يدلّ على حجّ المسيحيين إلى شرشال القيصرية،كما أشار بعض الكتّاب إلى استمرار اللاتينية والمسيحية بأفريقية .

يبدو أنّ اختفاء آخر طائفة مسيحية تمّ في القرن الثاني عشر،ويبدو أنّ ذلك الاختفاء لم يكن طبيعيا بل كان نتيجة اضطهاد، فقد كان الخلفاء الموحّدون غير متسامحين، فبعد استيلائهم على تونس خيّر عبد المؤمن المسيحيين واليهود بين اعتناق الاسلام أو الموت بالسيف وفي نهاية القرن الثاني عشر كان حفيد عبد المؤمن: أبو يوسف يعقوب المنصور يفتخر بأنّه لم تبق في دولته كنيسة مسيحية واحدة(32).

اتّخذ التعريب مناحي عديدة، فقد كانت الأرضية مهيّاة له بوجوب نطق العديد من المفردات باللغة العربية لإعلان الانضمام إلى الإسلام، وكان التعريب خلال الفترة الأولى [القرن السابع إلى القرن الحادي عشر] لغويا وثقافيا وفي الأساس حضريا أي داخل المدن، فقد احتفظت مدن مغاربية قديمة (ذات تأسيس إسلامي، كتونس وتلمسان وفاس…) بلغة كلاسيكية كتذكار لذلك التعريب الأوّل، تلك العربية الحضرية ذات التأثّر ببناء الجملة الأمازيغية نجدها أيضا عند سكّان الساحل التونسي والساحل القسنطيني (قبائل الحدرة) وأيضا عند الطرارة (مسيردة) وعند الجبالة في الريف الشرقي، وحسب جورج مارسي (G. Marçais) فإنّ هذه المناطق الساحلية كانت منفذا لعواصم جهوية مستعربة منذ أمد بعيد، ويمثّل هذا الوضع نتائج للاستعراب الأوّل (33).

لا نعرف في الواقع الامتدادات الجغرافية بدقّة لهذا الشكل القديم للاستعراب الشمال أفريقي، فالمناطق الداخلية الممتدّة من الجنوب التونسي إلى الصحراء الغربية وإلى سهول الجزائر الوسطى والمنطقة الوهرانية إلى المغرب ذات تعريب بدوي بسبب اختلاط العنصر البدوي الهلالي بالقبائل الزناتية في القرن الحادي عشر الشيء الذي أدّى إلى تعريب قسم كبير من الأمازيغ.

ينبغي لفهم الوصول المفاجئ للعشائر الأعرابية أن نعود إلى القرن العاشر خلال العهد الفاطمي، حيث كان بربر زناتة قد وسّعوا نفوذهم في السهول العليا على حساب إخوانهم بربر صنهاجة الذين احتفظوا بالمناطق الجبلية الساحلية في الجزائر الوسطى والشرقية،وكانت إحدى القبائل الجبلية وهي كتامة قد استقبلت داعية شيعيًّا [أبو عبد الله الصنعاني] الذي بشّر بمقدم المهدي (المنحدر من فاطمة وعلي؟) وتمركز هذا الداعية في تازروت (ميلة) ونظّم ميليشيا مؤلّفة من أوائل أنصاره ثمّ ذهب إلى موقع حصين شرقي البابور هو “إيكجان” وتبيّن أنّ هذا الداعية استراتيجي كبير،فتمكّن من احتلال سطيف وباجة وقسنطينة، وأصبح الشيعة في 909 سادة القيروان، فأعلنت الدولة الفاطمية بقيادة المهدي عبيد الله الذي نجا من سجن أمراء سجلماسة له، وخلّصته حملة كتامية يقودها الداعية أبو عبد الله من الأسر ودخلت به القيروان منتصرة في ديسمبر 909، وفي طريقها دمّرت كلّ المواقع الرافضة للتشيّع، ونجحت القيادة الفاطمية المنحدرة من عبيد الله في السيطرة لفترة على القسم الأكبر من أفريقيا الشمالية، لكن زناتة المعتنقة لمذهب مختلف قامت بحركة ثورية خطيرة قادها فقيه أباضي هو مخلد بن كيداد المسمّى في الكتب العربية صاحب الحمار(34)(أبو يزيد)، ولولا تدخّل صنهاجة بقيادة زيري بن منّاد لانقرضت السلالة الفاطمية، وقد حفظ الفاطميون الجميل لصنهاجة، وعندما فتحوا مصر تركوا حكم الشمال الأفريقي لزعيمها بولوكّين بن زيري (973).

بعد ثلاثة أجيال تخلّى الزيريون عن المذهب الشيعي،وأعلنوا الانفصال عن الفاطميين (1045) لأنّ الشعب الأمازيغي أخذ يرفض تدريجيا مذهبا فُرض عليه بالقوّة، وفضّل الولاء للخليفة العبّاسي في بغداد، ولمعاقبة هذه الحركة الانفصالية، قام الخليفة الفاطمي بتحريض عشائر الأعراب المشاغبة ومن يدخل ضمنها من مغامرين على التوجّه إلى الشمال الأفريقي(35)، وكان أولئك الأعراب يعيشون بداوتهم في ناحية ساييس (Saïs) في صعيد مصر، وبدأ الزحف الكبير بأعراب هلال متبوعين بأعراب سُليم، ووصل هؤلاء إلى إفريقيّة (1051) ورغم الطابع الأسطوري لهذه الحركة في “تغريبة بني هلال”،إلاّ أنّ ابن خلدون قدّم لنا معلومات مفصّلة (36)، ويبدو أنّ المغامرة استهوت الكثير أثناء الزحف الكبير بما في ذلك مجموعات من اليهود الرحّل رافقت هؤلاء البدو ودعّمت الطوائف اليهودية في الشمال الأفريقي التي يعود أهمّها إلى أصول زناتية.

لا ينبغي الاعتقاد أبدا بأنّ حركة هؤلاء الأعراب كانت مثل جيش زاحف يحتلّ كلّ مكان يصل إليه أو أنّ هذه العشائر قاتلت الزيريين وإخوانهم الحمّاديين أو أنّها دخلت في مواجهة بين عرب وأمازيغ ذات طابع قومي أو عرقي، بل إنّ الأعراب دخلوا الشمال الأفريقي وتمركزوا في المناطق الخالية من السكّان ثمّ استجمعوا قواهم لنهب المدن تباعا، وبعد النهب يتفرّقون بعيدا حاملين معهم الغنائم التي نهبوها، وأصبح هؤلاء يحترفون النهب والسطو وقطع الطريق، ولذلك لم يتوان الملوك الأمازيغ: زيريون وحمّاديون وأخيرا موحّدون ومرينيون من استغلال هذه الروح القتالية، واستعمال هذه القوّة “العسكرية” الجاهزة في أغراض شتّى وحتّى ضدّ بعضهم، وبالتدريج أخذ هؤلاء الأعراب يتوزّعون في الأرياف(37).

منذ وصول هؤلاء الأعراب، فكّر الملوك الأمازيغ في استعمال هذه القوّة الجديدة في حروبهم ضدّ بعضهم البعض، وبعيدا عن التشنّج من دخول هؤلاء الأعراب الشما أفريقي، فإنّ الملك الزيري بحث عن تحالف معهم لمحاربة أبناء عمومته الحمّاديين، إلى درجة أنّه زوّج إحدى بناته بشيخ عشيرة رياح، ومع ذلك فإنّ هؤلاء الأعراب حاربوا الزيريين مرّتين في 1050 وفي 1052 في القيروان ونشروا الفوضى في كلّ مكان، وأصبح بعض قادتهم “ملوكاRoitelets” على قرى محدودة، وأخيرا دخلوا في حروب ضدّ بعضهم (أثبج ضدّ رياح وحمّاديون ضدّ زيريين!).

ظهرت قوّة سياسية مذهبية جديدة(1152) بعد قرن من وصول الأعراب، وهي القوّة الموحّدية التي جعلت من أبرز مهامّها إنهاء حالة الفوضى التي نشرها الأعراب،وتحرّك الجيش الموحّدي لفرض الأمن، فقضى على الأعراب في عدّة جهات،وعندما جمّعوا قواهم في سطيف سحقهم الجيش الموحّدي وقام بتوزيعهم في عدّة جهات لدمجهم والقضاء على شغبهم،ومع ذلك بقي البعض منهم يمثّل قوّة خاصّة عندما عقدوا أحلافا مع بعض كبريات القبائل الأمازيغية(38)، إلى درجة أنّ الحفصيين خلفاء الموحّدين في تونس لم يستنكفوا من استعمال الأعراب لتدعيم سلطانهم، ومثلهم فعل يغمراسن في تلمسان والمرينيون في فاس.

كان دخول هؤلاء الأعراب إلى الأرياف عاملا في خرابها، وتدهور العمران بسبب النهب والتدمير الذي تعرّضت له المدن في إفريقيّة خاصّة ، إلى الحدّ الذي جعل ابن خلدون يشبّههم بالجراد الذي يدمّر كلّ شيء يعترض سبيله (30).

من الغريب حقّا، بل من العجيب أن يحدث تحوّل إثنو-سوسيولوجي في شعب يعدّ بالملايين من قبل بضعة آلاف من البدو،وإذا أخذنا في الاعتبار المعلومات التي دوّنها فيكتور الفيتي (Victor de Vita) فإنّ عدد الوندال كان 80000 ، وهو عدد مساو تقريبا لعدد الأعراب الذين اكتسحوا أفريقيا في القرن الحادي عشر ، فما ذا بقي من الوندال في أفريقيا بعد قرنين من غزوهم لها ؟ . لقد محا الاحتلال البيزنطي الوجود الوندالي نهائيا وقد بحثنا عن المنحدرين من أولئك الوندال على امتداد أفريقيا ولكن دون جدوى، أمّا آثار اكتساح الأعراب للمغرب في القرن الحادي عشر فهي قويّة وبادية للعيان: استعراب القسم الأكبر من الشمال الأفريقي واعتبار دوله عربية ؟ .

ليس تراجع الأمازيغ من السهول نحو الجبال ولا خصوبة الأعراب هي التي تفسّر هذا الاستعراب(40) اللغوي العميق، فهؤلاء الأعراب وجّهوا في المقام الأوّل ضربة قاضية للحياة الحضرية من خلال النهب والتخريب والرعب الذي زرعوه في الأرياف الواسعة،كما أنّهم دفعوا الرحّل الزناتيين- وهم الذين يسمّهم غابريال كامبس البربر الجدد (Néo berbères)- الذين يشبهونهم في نمط العيش، إلى دخول إفريقيّة ونوميديا منذ القرن الحادي عشر، وهؤلاء الزناتيون مهّدوا لبداوة الأعراب فأقاموا بيئة مناسبة لأعراب هلال وسُليم ومعقل، ممّا سهّل على الأعراب في وقت لاحق دمج هؤلاء الزناتيين، بما للعربية لغة القرآن المقدّس – التي يتكلّم أولئك الأعراب إحدى لهجاتها- من بريق، وبذلك أدمجت قلّة من الأعراب الكثرة الكبيرة من أولئك الزناتيين لغة وثقافة (41) .

إنّ التماثل في أنماط الحياة سهّلت الاندماج،وجعلت رحّل الأمازيغ يعلنون بأنّهم عربا، لكسب اعتبار ومكانة الفاتح،وحتّى مقام “الشريف” أي المنحدر من النبي (ص)،كما أنّ الاندماج تيسّر قانونا فعندما تعلن قبيلة أمازيغية الولاء الجماعي لصحابي مثلا يكون لها حقّ الانتساب إليه كشكل من أشكال التبنّي الجماعي، وهذا تقليد وجد عند الأمازيغ أنفسهم، وهو ما سهّل هذا المسار، ولا ننسى في هذا المقام قصّة تبنّي الكاهنة لأحد أسراها العرب واعتبارها إياه ابنا ثالثا لها(خالد العبسي) وعلى العكس نادرا ما نجد عشيرة عربية متبربرة.

لقد امتدّت حركة الاستعراب بين قبائل الأمازيغ الرحّل وخاصّة الزناتيون إلى درجة أنّنا لا نكاد نجد اليوم إلاّ القليل من اللهجات الزناتية البدوية مثل اللهجة التي يتكلّمها بعض سكّان الورشنيس أو واحات الصحراء الشمالية (امزاب)، وكانت المجموعات الأمازيغية القوية من رحّل هوّارة وسط تونس وشمالها قد استعربت نهائيا في القرن الخامس عشر وانضمّت إليها عشيرة سُليم، كما أشار إلى ذلك مارسي ومنذئذ أخذت تونس طابعها الإثني واللغوي الحالي. إنّها البلد الأكثر استعرابا في الشمال الأفريقي كلّه، أمّا في المغرب الأوسط فإنّ القبائل الزناتية المستعربة أو في طريق الاستعراب حلّت محلّ القبائل الصنهاجية التي هيمنت طويلا قبل ذلك، وأسّس بنو عبد الواد الزناتيون دولة في تلمسان كما فعل إخوانهم المرينيون في المغرب الأقصى بإزاحة آخر ملوك الموحّدين وأقاموا على أنقاضهم الدولة المرينية .

هناك عامل آخر للاستعراب أهمله مؤرّخو الشمال الأفريقي، وهو تفكّك القبائل التي كانت قد لعبت أدوارا هامّة، فقد تلاشت فاعليتها، واندمجت في الحركات العسكرية وفي الحملات التي أرسلت بعيدا عن مواطنها، مثل كتامة في القبائل الصغرى الشرقية التي كانت راسخة في إقليمها الجبلي،وساهمت كما رأينا في إقامة الخلافة الفاطمية،وقد جنّدت من أبنائها فيالق حاربت في كلّ أنحاء الشمال الأفريقي وصقلية ومصر،وقد توزّع أبناؤها في كلّ الحاميات العسكرية، وعدد كبير منهم قضى نحبه في تلك الحروب، ومن بقي من كتامة اليوم بقي معزولا في إقليمه الجبلي ما بين القلّ وجيجل تميّزهم لهجتهم الخليط من الأمازيغية والعربية .

إلى جانب مجموعات الأمازيغ الرحّل الذين استعربوا وأصبحوا عامل تعريب لباقي الأمازيغ، نضيف العامل السياسي،حيث لم يكن الأمراء والملوك الأمازيغ يتردّدون في استعمال الأعراب في صراعاتهم ضدّ بعضهم،فكأنّهم بذلك أطلقوا أيدي هؤلاء الأعراب في البلاد،فعاثوا فيها فسادا واكتسح الاستعراب البدوي(42) كل الجهات مصحوبا بالنهب والخراب، وهو الداء الذي سينخر الدويلات البربرية ذاتها، ومنذئذ انحصرت اللغة الأمازيغية في مناطق محدودة محتمية بالكتل الجبلية !، مع بعض الاستثناءات في التفاصيل، فقد ظلّت بعض السهول مجالا للرعي والترحال للرحّل الأمازيغ في الصحراء الوسطى والجنوبية (في الجزائر،مالي والنيجر) وفي الجنوب الغربي حيث قبيلة آيت عتّا المتمركزة في جبل سارغو،محافظة على نمط نصف بدوي أمازيغي،بين المجموعة المستعربة في تافيلالت [التي أنجبت العائلة الشريفية الحاكمة في المغرب] وبدو الرقيبات في الصحراء الغربية الذين هم خليط من الأمازيغ وأعراب معقل، وهذا دون نسيان الرحّل الأمازيغ من مجموعة آيت زيان في الأطلس الأوسط من قبائل: آيت زيّان ، بني مجيلد ، آيت سغروشن ….

إنّ اللغة الأمازيغية هي لغة الحضر أيضا كما هي لغة الجبليين، بل لا تزال في جزيرة جربة وفي المدن الميزابية الخمس (Penta polis M zabites) وواحات توات وقورارة، وسهول الساحل الصحراوي التي يرتادها توارق كال غريس (Kel Grès) وتوارق كال دينّك (Kel Dinnik) وتوارق أوليميذن (Ouillimiden) فهذه الجهات على غرار الجبال المغربية والقبائلية هي أيضا لا تزال ناطقة بالأمازيغية(43).

لا ينبغي أن نتصوّر بأنّ المستعربين في الشمال الأفريقي كلّهم بدو رحّل، فقد استقرّت مجموعات مستعربة منذ قرون وألفت حياة الاستقرار حول المدن وفي الأرياف القريبة منها،فسكّان الجبال الساحلية في شرقي الجزائر وشمالي تونس استعربوا منذ أمد بعيد حتّى قبل غزوة الأعراب، إلاّ أنّ الملاحظ هو أنّ المناطق التي لا تزال محافظة على اللغة الأمازيغية هي في الواقع في أغلبها مناطق جبلية أو نائية وهي كالحصن أو الملجأ للغة أجليت عن مدن السهول الخصبة التي استولى عليها الاستعراب البدوي، وهذا ما جعل الشمال الأفريقي في القرن التاسع عشر يواجه اختلالا عجيبا: جبال وتلال فقيرة آهلة بالسكّان يسكنها فلاّحون، وسهول خصبة واسعة يرتادها مربّو أغنام، فالجبال هي حصون الفلاّحين المزارعين المستقرّين الذين أجبرتهم غزوة الأعراب ورحّل الأمازيغ المستعربين على التخلّي عن أراضيهم في السهول (44).

يخطئ من تذهب به الظنون أنّ الزحفة الهلالية وحدها عرّبت الأرياف الأمازيغية، لقد بدأ الاستعراب من الحواضر منذ بدايات الفتح الإسلامي، واعتمدته الإدارة في كلّ الدول البربرية الإسلامية، ولذلك لم نر اصطداما لغويا بين أعراب الزحفة والأمازيغ، بل إنّ الاحتمال الكبير هو أنّ الأعراب تخلّوا تدريجيا عن لهجتهم التي كانوا يتحدّثونها في الشرق واندمجوا في عربية أفريقيا الشمالية، فهناك مؤشّرات عديدة ينبغي على المهتمّين والمتخصّصين في الألسنية أن يولوها العناية في هذا السياق(45).

مهما تكن أصول الأمازيغ المحافظين الذين يسكنون الجبال: زناتيون أو صنهاجيون أو كتاميون فإنّهم يمثّلون كمّا ديمغرافيا كبيرا في أراضي محدودة المساحة والانتاج، وهو ما يدفع إلى الهجرة نحو الجهات المستعربة خاصّة من الجبال القبائلية نحو مدن الداخل، وهذا ما يجعل هؤلاء يفقدون لغتهم الأمازيغية عند الاستقرار هناك،حيث ظروف الحياة مغايرة وحيث تعقَد الزيجات المختلطة (46) ، وهذا أيضا من عوامل تفاعل الاستعراب الذي لم يتوقّف إلى الآن، مع أنّ هذا الاستعراب كان يمكن أن يتفاعل وأن يتسع دون أن يطمس الركيزة الثقافية الأولى للشعب، وإذا أضفنا عشرات الآلاف من المعلّمين الذين استقدمتهم بلدان الشمال الأفريقي (خاصّة ليبيا والجزائر) من الشرق الأوسط بعد استقلالها على امتداد سنوات لتعريب شعبها الأمازيغي نعرف حجم ما تواجهه اللغة الأمازيغية التي تحتضر الآن وتعيش آخر أيّامها (47).

كرونولوجيا ما قبل تاريخ وتاريخ الأمازيغ القديم

الممالك الأمازيغية :

خاتمة

ماذا تقدّم لنا الهوية،سؤال سيطرَحه كلّ من يطّلع على مثل هذه الدراسة وقد ينبري بعض مريدي الأيديولوجيات الواردة من هنا وهناك لشرح المسألة من حيث هي خطيرة وتحويلها إلى عرقية مقيتة باستعمال بعض المفردات التي تخلط بين الهوية والعنصرية، وتصف كلّ فكرة مخالفة بأنّها من صنع عملاء الاستعمار …الخ، ومع ذلك فإنّ القضايا التي تثير السؤال في حدّ ذاتها هي قضايا في غاية الأهمّية، في أمّة تكره السؤال، والحال أنّ الهوية هي أساس متين تقوم عليه الأمم والدول، تبني الفرد المخلص للوطن المنافس للآخرين في بنائه، الهوية تساهم في خلق مجتمع منسجم يمتلك ثقافة التعاون والتكامل، الهوية رسالة الأجداد إلى الأحفاد لصون الوطن، وخيركم خيركم لأهله كما جاء في الأثر الشريف، وكلّ أمم العالم المتقدّم بنت قوّتها على هويتها؛ أمّا الشعوب التي فرّطت في ذاتها وهويتها فقد أنتجت أجيالا لا تشعر بانتمائها إلى وطنها، لأنّ اصطناع الهوية يشدّ الفرد خارج وطنه، ولعل من حسن الظروف ان تتحرر الكثير من الشعوب قبل ظهور بعض الايديولوجيات التي تستهين بقدسية الانتماء للوطن حتى بلغ الامر حد الدخول في صراعات تغامر بوحدة الوطن وعزته وسلامته.

العربي عڨون | جامعي، استاذ محاضر بجامعة سيرتا (قسنطينة)

هوامش وتعاليق
(1) لم نجد في كلّ المصادر القديمة اسم بربر كاسم إثني لأهل شمال أفريقيا،وقد اعتبر ابن خلدون هذه الكلمة عربية مصدرها بربرة أي الكلام غير المفهوم،وهي بذلك لا علاقة لها بالكلمة الإغريقية Barbaroi،والحال أنّ التصنيف اللغوي له وجود عند العرب فهم الذين سمّوا الفُرس عجما أي الذين لا يُفهَم كلامهم كالعجماوات
(2) الليبيون في هذه الدراسة هم الأمازيغ وهي التسمية التي نجدها في المصادر الكلاسيكية الإغريقية.
(3) وهم الذين تشير إليهم بعض الدراسات باسم البرابر (Braber) بسكون الباء الأولى ، ينتشرون ما بين واحات تافيلالت وسفوح الأطلس الكبير
(4) كان المستشرقون الأولون الذين رافقوا الحملة الفرنسية على الجزائر أو واكبوا بدايات الاحتلال مستعربين في الغالب وقد وجد هؤلاء أنفسهم أمام وضع أنثروبولوجي ولغوي على غير ما كانوا يتوهّمون وهذا الوضع هو الهوية الحقيقية للشمال الأفريقي الذي اعتقدوا في البداية أنّه لا يختلف عن بلدان الشرق الأدنى ولا ننسى هنا أنّ أول وثيقة فرنسية باللغة العربية وهي المنشور الدعائي الذي وزّع عشية الاحتلال كتب بلهجة مشرقية، هذا ما دفع روّاد الاستشراق إلى العناية بلهجات اللغة الأمازيغية فظهرت في هذا المجال دراسات هنري باسي (1892-1926) Henri Basset ثمّ أندري باسي (1895-1956) وهما ولدا روني باسي (1855-1924) يضاف إليهما الأخوان مارسي : وليام (1872-1956) و جورج (1876-1962) ، وتبعهم آخرون، ولكن كلّ هؤلاء لم يخرجوا التراث الأمازيغي بل وحتّى العربي عموما من الإطار الفولكلوري بسبب نزعتهم الاستعمارية.
(5) ينبغي في هذا الموضوع مراجعة مقالنا : القاعدة المشتركة للكتابات واللغات : مقاربة في أصول الكتابة الليبية، في مجلّة الحوار الفكري صادرة عن مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة منتوري قسنطينة العدد 8 ، ديسمبر 2006 ص ص 168-178.
(6) نقصد بالأخلاط العشائر التي تنتمي إلى قبائل قديمة حدث تفكّك في بناها التقليدية فشكّلت تجمّعات قبَلية جديدة إمّا على أساس ديني مثل القبائل المرابطية التي يجمعها نسب رمزي وهي القبائل التي يبدأ اسمها بأولاد سيدي … وهي قبائل عديدة وكبيرة تشكّلت من إخوانيات (Confréries) يجمعها الولاء لشخص المرابط ثمّ تحوّلت مع الزمن إلى فرق وعشائر ابتكر لها المرابط شيخ الطريقة نسبا يدعم تضامنها وتفخر به ويضمن ولاءها الدائم للمرابط على الخصوص.
(7) يمتدّ إقليم الشاوية من عنابة شمالا إلى واد سوف وبوسعادة جنوبا إلى سطيف ومسيلة غربا والملاحظ أنّ الاستعراب يطوّق هذا الإقليم ويقتطع منه في كلّ جيل جزءا هامّا، وحتّى المدن الواقعة في أطرافه وفي داخله هي مراكز استعراب، ولكنه استعراب اللسان أمّا الأعراف والنظم الاجتماعية والتقاليد والعادات والفولكلور عامّةً فلا يزال أمازيغيا كما هو.
(8) نقصد بالأمازيغ المحافظين، أولئك الذين لايزالون يستعملون اللغة الأمازيغية في حياتهم اليومية، تمييزا لهم عن الأمازيغ المستعربين الذين تخلّوا نهائيا عن استعمالها منذ أجيال، في ظروف تاريخية معيّنة، ومن الملاحظ اليوم أنّ أغلب الأمازيغ المحافظين هم في الواقع مزدوجو اللغة أي أنّهم يتكلّمون الأمازيغية والعربية الشعبية بلهجاتها المختلفة،ولا فرق بينهم وبين المستعربين وهذا بحكم المدرسة والإعلام… فهل هذه الازدواجية محطّة انتقال نهائي إلى استعراب تامّ، أي التخلّي نهائيا عن استعمال الأمازيغية ومن ثمّ انقراض هذه اللغة ؟.
(9) لم نجد في الجيل الثاني المستعرب من يهتمّ بانتمائه الأمازيغي، وبالنسبة إلى هؤلاء فإنّ ذلك الانتماء في أحسن الأحوال ما هو إلاّ “وضع” تمّ تجاوزه ولا يمكن التفكير فيه أمّا الجهات التي استعربت منذ أجيال فهي في الغالب لا تكاد تعرف شيئا عن ذاتها وعن مسارها التاريخي في مجتمع تسيطر عليه الشفوية.
(10) هي معجزة حقّا أن تنجو الأمازيغية من عاديات الزمن وتصل إلى القرن الواحد العشرين رغم عدم وجود سند من الدين أومن السياسة يدْعمها،وعلى العكس من ذلك شنّت عليها حرب أيديولوجية في عهد استقلال دول الشمال الأفريقي تحت غطاء معاداة الاستعمار،مع أنّ الاستعمار ظلّ في هذه البلاد فترة طويلة ولم يفعل لها شيئا سوى بعض الدراسات التي لم تخْرجْها من دائرة الفولكلور.
(11) كان الراحل غابريال كامبس أحد المبادرين إلى تأسيسها وظلّ يعمل بجدّ وتفانِ في تحرير مادّنها، ولا يزال الفريق العامل بها يواصل العمل لإكمالها .
(12) تنظر العامّة اليوم نظرة أفقية ونظرا لما تختزنه الذاكرة من ذكريات ليست دائما حسنة فهذه المجموعة السكانية أو تلك تستنكف أن يكون بينها وبين مجموعة أخرى أيّ رابط خاصّة إذا كانت قد تخلّت عن لغتها الأمازيغية منذ أجيال هنا يظهر التنكّر بجلاء، ويعتقد هؤلاء وهم مخطئون أن الفوارق اللغوية دليل على فوارق في الأصول … .
(13) نقصد الدراسات الألسنية الفيلولوجية المتخصّصة لا كما رأينا في بعض الكتابات السياسوية المؤدلجة التي أقحمت نفسها في ما لا تفقه فيه وهي كتابات يمكن وصفها بالكاريكاتورية الساذجة على طريقة “شكسبير الشيخ الزبير” فوجدنا من يتصدّى للتأليف لإثبات أنّ ثامطّوث من الطمث وأرقاز من الركيزة …الخ من هذه الترّهات لتمرير بعض الطروحات البائسة.
(14) Camps (G.), Comment la Berbérie est devenue Le Maghreb Arabe, in Revue de l’Occident musulman et de la Méditerranée, n°35, Aix-en-Provence, 1983, pp. 7-24.
(15) مثل الرُّوضا من اللاتينية (Rota) وهي العجلة والريبا (Ripa) وهو المنحدر وأورثو (Hortus) وهو البستان.
(16) هذه النسبة التي يقدّمها الباحثون تخصّ اللهجة الأمازيغية المحكية في بلاد القبايل، ولكن يمكن استرجاع المفردات التي حلّت محلّها كلمات عربية أو فرنسية لو أنّ اللغة الأمازيغية استفادت من المدرسة ووسائل الإعلام على غرار اللغات الأخرى.
(17), La Langue Berbère, In l Afrique et l Asie, 1956 .-Basset(A.)
(18) مثل هذه النظريات التوفيقية التي تعود إلى القرنين XIX و XXلا تلقى تأييدا كبيرا،لأنّها كانت تؤسّس لفكرة قبول كيان إسرائيلي في فلسطين ليجد القبول من شعوب المنطقة والدليل أنّ جلّ العاملين في هذا الحقل المعرفي هم من اليهود.
(19) استعملنا عبارة : متبربرون في مقابل العبارة : Berbérisantsبمعنى المتخصّصين في اللغة البربرية.
(20) Ch. E. Dufourcq, «Berbérie et Ibérie médiévales, un problème de rupture », in Revue historique, 488, oct.
déc.1968, pp. 293-324 (21) لقد أسس الإسلام إمبراطورية واسعة ضمّت شعوبا وأمما عديدة، وقد استغلّ الفقهاء ما للدين من قوّة فدعّموا السلطة السياسية في تعريب السريان والكلدان والأنباط والأقباط والأمازيغ وعندما أخذت تلك الشعوب تعمل من أجل استقلالها كال لها الفقهاء كلّ التهم من زندقة وهرطقة وردّة… وإذا كانت بعض الفئات قد تحمّلت القهر السياسي وحافظت على أديانها كالأقباط والموارنة والأشوريين فإنّ جماعات أخرى عبّرت عن إثنياتها باعتناق مذاهب إسلامية تصون تضامنها كدروز الشام ونصيرية الساحل وشيعة العراق فهي تجمّعات إثنية قديمة بواجهة دينية إسلامية.
(22) وجد القوميون العرب في إمبراطورية الإسلام مجالا لقلب تلك الإمبراطورية إلى أمّة بالمعنى الاصطلاحي الذي ظهر في أوربا في العصر الحديث ونحن نستغرب عندما يعتبر هؤلاء مصر القبطية الفرعونية وسوريا الفنيقية السريانية كبافاريا وبروسيا الألمانيتين، مع أنّ التشبيه الصحيح هو أنّ مصر وسوريا في هذا السياق هما مثل المكسيك والأرجنتين تجمعهما اللغة التي مكّن لها التاج الإسباني وليستا أمّة واحدة.
(23) وأكثر من ذلك قدّمت أفريقيا للثقافة اللاتينية في العصرين الوثني والمسيحي أكبر المبدعين وأرقى الأعمال الأدبية والفكرية الخالدة، وظلّت الملاذ الأخير للثقافة اللاتينية منذ أبوليوس إلى كوريبوس وفيكتور دي فيتا.
(24) توجد قرية شمال شرقي مدينة باتنة باسم جرمة كما أنّ إغرم في الأمازيغية تعني قرية.
(25) – Ch. Courtois, « De Rome à l’islam », Revue africaine, t. 86, 1942, pp. 24-55
(26) اختفى هذا الاسم ولا ريب أنّ ثورة أبي يزيد التي تجنّد فيها عدد كبير من الجراويين قد شتّتتهم ليتوزّع عقبهم في كلّ أفريقيا الشمالية، مع أنّ بعض العائلات لا تزال تحتفظ بالانتماء إليها من خلال ألقابها مثل ألقاب قروي وجروي (Gueroui et djeroui)…الخ.
(27) المور هو الاسم الذي ظلّ يُطلَق على الأندلسيين في الغرب الأوربي وفي اللغة الإسبانية هو اسم علم لكلّ المسلمين ، لأنّ العنصر العربي لم يكن إلا قلّة قليلة ولكن كان قويا بنفوذه وبالمكانة التي أنزله فيها المسلمون وهم الأمازيغ في معظمهم، ولمّا أقل نجم الإسلام في الأندلس ونزح منهم من نزح إلى موطن أسلافه عاد وهو مستعرب تماما وبذلك تلقّت حواضر الشمال الأفريقي هؤلاء النازحين الذين سيدعّمون استعرابها.
(28) نذكّر في هذا السياق بأنّ الكاهنة وقبيلتها جراوة على ما تقوله المصدر كانت على الدين اليهودي أمّا كسيلة فكان مسيحيا هو وقبيلته أوربة.
(29) نجد في المصادر اللاتينية ما يشير إلى أنّ المسيحية “الشمال أفريقية” سواء لدى الدوناتيين أو الأريوسيين مختلفة عن مسيحية الرومان والإغريق وأريوس ذاته مؤسّس المذهب الأريوسي هو من أصل ليبي أمازيغي على ما تذكر المصادر ومذهبه ينزّه الله ويعتبر المسيح نبيا.
(30) G. Marçais, La Berbérie musulmane et l’Orient au Moyen Âge, Paris, Aubier, 1946.-
(31) و نذكّر هنا بالداعية أبي عبد الله الصنعاني الذي تمركز في أحد أقوى الأحلاف القبَلية الأمازيغية وهو حلف كتامة (قبايل الحدرة) في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي وإذا كان المؤرّخون قد اعتنوا بالتاريخ المذهبي والسياسي للحركة الشيعية في أفريقيا الشمالية فإنّهم لم يولوا الاهتمام الكافي لذلك الانقلاب اللغوي الذي رافق انتشار المذهب الشيعي في كتامة،التي لا تزال تتكلّم لغة متميّزة هي تركيب عربي أمازيغي إلى اليوم رغم التأثير الذي تحدثه المدرسة ووسائل الإعلام يوما بعد يوم.
(32) Marçais (W), « Comment l’Afrique du Nord a été arabisée », Annales de l’Institut d’études orientales d’Alger, t. IV, 1938, pp. 1-22 et t. XIV, 1956, pp. 6-17.
(33) -Marçais (G), « Notes sur les Ribât en Berbérie », Mélanges André Basset, t. II, 1925, pp. 395-450
(34) من هناك كان قادة الحركة المرابطية يرسلون دعاتهم في صورة معلّمي قرآن وأئمّة، إلى مختلف جهات الشمال الأفريقي ومع الزمن أحاط بهم المريدون والإخوان فكوّنوا أسرا “مقدّسة” وتوطّدت علاقات المصاهرة بين المريدين والإخوان وهم أخلاط من مختلف القبائل الأمازيغية فتحوّلوا إلى قبائل وعشائر يبدأ اسمها باولاد سيدي … وقد يحملون أيضا اسم الشرفاء لأنّهم انتحلوا النسب الشريف، وهم مروّجو الانتماء إلى الساقية الحمراء لدى أغلب سكّان الجزائر على الخصوص لأنّ أسلاف العائلات المرابطية في أغلبها قدموا من وطن لمتونة وجزولة … وهؤلاء استعربوا وعرّبوا مريديهم .
(35) وهؤلاء المرابطون هم الذين مغربوا الإسلام أي أضفوا عليه طابعا خاصّا يميّزه عن إسلام الشرق الأدنى .
(36) H. R. Idriss, « Fêtes chrétiennes célébrées en Ifriqîya à l’époque ziride (IVe siècle de l’Hégire – Xe siècle après J.-C.) ». Revue africaine, t. XCVIII, 1954, pp. 221-276.
(37) 25 Marçais (G),Villes et campagnes d Algérie, Gouvernorat Général, Imprimerie Nationale, Paris 1958, pp. 20-
(38) أبو يزيد هو في الواقع تحريف لكلمة أمازيغية (من اللهجة الميزابية تعني صاحب الحمار) أو الذي يستعمل الحمار في تنقّلاته، ونظرا لقربها من الكلمة العربية شاعت في المصادر العربية على أنّها كنية وهي ليست كذلك، أنظر: بن يوسف (الشيخ سليمان داود) ، ثورة أبي يزيد جهاد لإعلاء كلمة الله، دار البعث، قسنطينة. ص 24 .
(39) لا نعرف تفاصيل زحف الأعراب من صعيد مصر ، ولا ريب أنّ طول الطريق يجعل الكثير من المغامرين من بربر برقة وطرابلس ينضمّون إليهم ، لأنّ هؤلاء يكونون قد استعربوا قبل وصول أولئك الأعراب لاعتبارات عديدة أوّلها أنّ بلادهم ظلّت لفترة طويلة منطقة عبور بين الشرق والمغرب .
(40) عاش ابن خلدون في القرن الرابع عشر (1332-1406) أي بعد ثلاثة قرون من وصول الأعراب إلى الشمال الأفريقي (1052) وهي فترة طويلة عرفت تحوّلات ثقافية عميقة، فكثير من القبائل التي جعلها ابن خلدون في عداد الأعراب، اعتمد على نسبها بالولاء لا على نسبها الحقيقي، إذ يكفي أن تكون عائلة نافذة في قبيلة بربرية كبيرة حتّى تعلن تلك القبيلة انتماءها إلى تلك العائلة وتتبنّى نسبها، لأنّ الفقهاء أوجدوا الأرضية لذلك بترسيخ فكرة سموّ النسب العربي، وقد لاحظنا بأنّ عبارة الأقارب والأهل تقابلها في عربية أفريقيا الشمالية عبارة: موالي، بشدّ وسكون الميم وإدغامها في الواو، فيقال: مواليه أي أهله، وهذا دليل على أنّ الانتماء بالولاء أصبح أساس القرابة.
(41) كان الأعراب في الأساس مربّي مواشي، وكانوا يستنكفون من العمل الزراعي، وقد يكون دخولهم الأرياف بغرض تحصيل الإتاوات التي فرضوها على المزارعين الذين قبلوا الولاء لهم.
(42) مثل قبيلة هوارة التي احتضنت الكثير من الأعراب وعن هذه القبيلة ينبغي الرجوع إلى كاريت في عمله الهامّ .
– Carette, (E.), Exploration scientifique de l Algérie, migration des tribus principales
(43) يراجَع في هذا الباب عمل جان ديبوا المهمّ ، أنظر : – Despois(J.),
(44) استعملنا هنا عبارة الاستعراب، ونقصد بها التحوّل الشعبي “الإرادي” إلى عربية شفوية شعبية، تمييزا عن التعريب الذي يعني التحوّل إلى عربية رسمية أداته المدرسة.
(45) نستغرب كيف أنّ مؤلّفي القصة الشهيرة تغريبة بني هلال يجعلون الصراع بين أعراب هلال وبربر زناتة ولم يذكروا البتّة لا صنهاجة ولا بني زيري الذين جاء أولئك الأعراب أساسا للانتقام منهم، وفي رأينا أنّ هذا يقيم الدليل على أنّ القصّة وُضعت في مرحلة متأخّرة عندما كانت زناتة تحكم المغرب الإسلامي أي في العهد ما بعد الموحّدي (بنو مرين وبنو عبد الواد على الخصوص) ممّا يدلّ على طابعها الأسطوري وأنّها لا تمتّ للتاريخ بصلة.
(46) يتميّز الاستعراب البدوي بلهجة خشنة نسمعها عند سكّان السهول العليا في الجزائر خاصّة.
(47) هناك مسألة جديرة بالاهتمام وهي أنّ الاستعمار الفرنسي ساهم في تعريب الهوية واللسان والأسماء في الحالة المدنية ففي منطقة الأوراس لا تسجّل الأسماء بصيغتها البربرية مثل موحند وامحند وآيت … بل سجّلت بالعربية، وهذا قد يثير استغراب البعض من الذين أشاعوا فكرة الفرنسة، وأكثر من ذلك استحدثت ما أسمته المكاتب العربية التي تعني في الواقع مكاتب الأهالي، وهؤلاء الأهالي وصمتهم الكتابات الفرنسية بالعروبة، فكلّ ما هو ليس أوربيا هو عربي بالضرورة: النبات والحيوان والإنسان، والاستعمار بهذا العمل كان يرسّخ الهوية العربية، أليس نابوليون الثالث هو صاحب مشروع المملكة العربية في الجزائر.
(48) -Marçais(W.), « Comment l’Afrique du Nord a été arabisée », Annales de l’Institut d’études orientales d’Alger, t. IV, 1938, pp. 1-22 et t. XIV, 1956, pp. 6-17.
(49) نلاحظ أنّ لغة الحديث تختلف من ليبيا وتونس إلى الجزائر والمغرب اختلافا بيّناً، رغم تسلّل بعض المفردات والصيغ إلى الحدود الجزائرية الشرقية مثل : توّا (أي الآن) التي تقابلها كلمة ضرك لدى المستعربين في الجزائر وهي كلمة محرّفة عن دا الوقت ، أمّا في المغرب فلا تزال الكلمة البربرية دابا هي المستعملة لدى الجميع مستعربين ومحافظين.
(50) في هذا المجال يشير الأنثروبولوجيون أنّه يمكن أن نجد أمازيغ خلّصا من جهة الآباء إناثا وذكورا ولكن لا يمكن أن نجد في المطلَق عربا خلّصا لأن الأنساب اختلطت بالمصاهرة أمّا العائلات المرابطية التي لا تدخل امرأة من غير النسب المرابطي في تكوين أسرها فقد ثبت بأنّها عائلات أمازيغية وما النسب الشريف التي يلوّح به أبناؤها إلاّ نسب روحي في أحسن الحالات وهو ردّ فعل على الأعراب فإذا استعلى عليهم الأعراب بالنسب العربي ردّ عليهم المرابطون بالنسب الشريف.
(51) – Chaker (S.), Arabisation, in Encyclopédie berbère : VI, 1989, ؛ أمّا المنطقة الشاوية فتشهد استعرابا حثيثا وأكثر من ذلك اختزل العامّة هناك الانتماء إلى الأصل الأمازيغي في اللغة توهّما منهم أنّ البربري هو من يتكلّم الشاوية لا غير وهذه الفكرة الساذجة تقودها الجماعات العشائرية والحضرية التي استعربت منذ أجيال ظنّا منها أنّ الوضع الذي هي فيه أرقى ولا يمكن لها أن ترجع إلى الوراء بعد أن حقّقت ذلك الرقي العظيم ولذلك نرى هؤلاء يصطنعون لأنفسهم الانتماء إلى المدن التي يقيمون بها مع أنّ الانتماء إلى مدينة هو انتماء إقامة وليس انتماء إثنيا أي أنّه انتماء لا يلغي الانتماء الإثني .

.