تاريخ

الفينيقيّون لم يعلّموا الأمازيغ استخراج الزيت من الزيتون

يدّعي عثمان سعدي ان الفينيقيين نقلوا الى الأمازيغ اساليب صناعية و زراعية كانت سائدة في المشرق “كصناعة الزيت من الزيتونة التي كانت شجرة برية غير مستأنسة بالمغرب قبل مجيئهم ” على حد زعمه. و هو إدعاء باطل آخر يريد من خلاله عثمان سعدي القدح في التاريخ الأمازيغي و نسب  كل شيء في تاريخهم الى التأثير الفينيقي .
سنبيّن في هذا المقال أن الأمازيغ كانوا يعرفون تطعيم الزيتون البرّي و انهم كانوا يستخرجون الزيت من الزيتون قبل قدوم الفينيقيين .

المعطيات التاريخية

مرة أخرى ينقل عثمان سعدي رأي المؤرخين الفرنسيين من اصحاب المدرسة الكولونيالية التي تنفي على الأمازيغ أي مبادرة   حضارية و تنسب كل تاريخ شمال افريقيا الى التأثيرات الخارجية  من أبسط النشاطات الزراعية الى غاية تقنيات البناء المتطورة .
يأخذ عثمان سعدي إدعاءه هذا  من دراسة للمؤرخ الفرنسي “هنري باصي” بعنوان “التأثيرات القرطاجية  عند البربر ” Les influences puniques chez les berbères)) . عندما ننظر بعين فاحصة لمزاعم “هنري باصي”  في دراسته هذه نرى أنه نَسَبَ ادخال و تطوير زراعة الأشجار المثمرة في شمال افريقيا الى الفينيقيين و بدرجة أكبر الى الرومان , محقّقا بذلك مقولة المؤرخين الاستعماريين القائلة ” في شمال افريقيا  , كل ما هو ليس فينيقي فهو روماني”.
لكن عثمان سعدي نقل الجزء المتعلّق بأفضال القرطاجيين على الأمازيغ متجاهلا الجزء الذي يذكر دور الرومان و ذلك لأسباب ذكرناها في مقالاتنا السابقة متعلّقة بإيدولوجيته القومجية العروبية (أنظر مقالنا الفينيقيين لم يدخلوا الأمازيغ التاريخ) .
يقول باصي: “إن العدد الكبير للألفاظ اللاتينية الموجودة اليوم في اللغة البربرية  للدلالة على الأشجار المثمرة يدل على أنه , إذا كانت قرطاج  هي من أدخلت بعض الأنواع الى شمال افريقيا, فإن روما هي من أَقْلَمَت هذه الأشجار و علّمت البربر الطريقة الأجدر لإستغلالها . إنها ]روما[ هي من حوّل شمال إفريقيا الى هذه الحديقة الكبيرة ” . و هو كلام مرسل لا تدعمه أي معطيات تاريخية أو لغوية و تغلب عليه الاعتبارات الإيديولوجية الضيّقة .

إن الرأي القائل بأن الزيتون ليس شجرة اصيلة في شمال افريقيا تكذّبه مصادر تاريخية كثيرة . يقول ستيفان قزال ” إن الكرمة , الزيتون , و في الغالب ايضا التين و اللوز  هي اشجار اهلية ببلاد البربر ” [1] .
ثم يستشهد بقول هيرودوت لتكذيب إدعاء كون الزيتون شجرة دخيلة في شمال افريقيا قائلا  “ادّعى أحد معاصري اغسطس (Auguste) و هو فينسطيلا (Funestella)  أن الزيتون المغروس كان غير معروف بإفريقيا في بداية القرن السادس . و يؤكد ديودور الصقلي من جانبه أن ليبيا لم تكن بها حقول للزيتون و الكرم في نهاية القرن الموالي . و هو قول غير صحيح غالبا, يكذّبه هيرودوت ” [2].

و يعترف ستيفان قزال بعدم وجود أي دليل يثبت كون زراعة الزيتون دخيلة في شمال افريقيا  فيقول ” هناك اقرار عام بكون زراعة الكروم  و الزيتون قد أُدخلت الى شمال افريقيا عن طريق الفينيقيين … هذا الشيء ممكن لكننا لا نملك أي دليل يدعمه . تبعا لأسطورة أوردها ديودور الصقلي , طهّر هرقل ارض ليبيا من جميع الوحوش الضارية التي كانت تملؤها , و هو ما جعل هذه الارض تُعطي غلات وفيرة من الحبوب و الأشجار المثمرة و انها زُرعت بالكروم و كثير من الزيتون المغروس (olivier cultivé) . سيكون من الجرأة الإدعاء ان المقصود بهرقل هنا هو إله صور “ملقرت ” الذي يرمز الى نِعم الاستعمار الفينيقي على إفريقيا . فديودور الصقلي قال أن هرقل أتى الى إفريقيا عن طريق جزيرة كريت “[3] .
و يقصد ب”الزيتون المغروس” (olivier cultivé) هنا الزيتون البستاني , أي الشجرة المستأنسة انطلاقا من تطعيم الزيتون البرّي (oléastre ) .

المعطيات الألسُنية التي تثبت معرفة الأمازيغ بتقنية تطعيم الزيتون 

يوجد في اللغة الأمازيغية إسمان مشتركان هما ” أزبّوج” الذي يُطلق على الزيتون البرّي و “أزمّور” للدلالة على الزيتون المغروس . يقول إيميل لاووست “أزمور اسم بربري للزيتون معروف عند جميع البربر بإستثناء التوارق . تظهر أن اصوله موغلة في القِدم بحكم و جوده في طوبونيما مناطق لم تعد ناطقة بالأمازيغية  مثل زمورة في الجزائر و أزمّور في المغرب ” [4] .
أما لفظ “أزبّوج” الأمازيغي فقد نقله الامازيغ معهم الى الأندلس فنجده اليوم في صيغة  “أثبوش” (Acebuche)  بالإسبانية و “أزنبوجو” (azembujo) في البرتغالية   . ويقول العربي عقّون في هذا الصدد ” كل البربر الى اليوم يسمّون الزيتون البري أزبوش أو آصبوش مع ميلان حرف الصاد الى الزاي المفخم (الجيم الفارسية) و لقرب الصاد من السين والإسبان كما هو معروف ينطقون السين ثاء صاغوا منه كلمة آثبوش و لاريب أن إستقرار البربر في شبه الجزيرة الإيبيرية و منهم كان جمهور الفلاحين أدّى إلى إنتشار الإسم و إن كان هناك اسم اسباني يكون قد زال من الإستعمال ليحل محلّه الإسم البربري “[5] .
فوجود لفظين أمازيغيّان خالصان (أزمّور و أزبّوج) للدلالة على الزيتون البرّي و البُستاني دليل قاطع على أن استئناس الأمازيغ لشجرة الزيتون كان سابقا لمجيء الفينيقيين وخارجا عن أي تأثير لهم .
و يؤكّد غابريال كامبس ذلك قائلا “وجود اسم بربري خالص للدلالة على الزيتون البرّي … في الشمال (زبوج) أو في الهقار (أليو) يُستنتج منه أن البربر عرفوا تطعيم الزيتون البرّي قبل أن يقيم الفينيقيون بساتين الزيتون”[6] .

الأمازيغ  كانوا يعرفون تقنية استخلاص الزيت من الزيتون خارج أي تأثير أجنبي

ذكر المؤرخ “سكولاكس” أن أمازيغ جزيرة جربة كانوا يستخرجون الزيت من الزيتون البري قبل مجيء الفينيقيين  . كما تذكر مصادر تاريخية أخرى أن النيوليثيين الأمازيغ كانوا يستخرجون الزيت من ثمار العنّاب و النشم , أي أن تقنية استخراج الزيت كان معروفة عندهم منذ فجر التاريخ قبل مجيء البحّارة الفينيقيين.
فيقول غابريال كامبس في هذا الصدد ” الزيت المستخلص من الزيتون البرّي لا يختلف نباتيا البتّة عن اللأوليا أوروبيا (الزيتون المغروس Olea europea) و هو زيت محلّي في افريقيا الشمالية كما هو الحال في عموم بلدان البحر المتوسّط , يستخرج من ثمرة الزيتون البري و قد نقل إلينا سكولاكس بالحرف أن سكّان جربة يصنعون الزيت من عصر ثماره , و هذه المرحلة  من القطف و الإنتاج يمكن اعتبارها الأقدم و الخالية من أي تأثير أجنبي  .فقد كان قدماء البربر يستخرجون من الزيتون البرّي مادة غذائية مثلما  كان أسلافهم النيوليوثيون يستخرجونها من ثمار العنّاب و النشم , و الطريقة هي ذاتها خلال ما قبل التاريخ لا تتطلّب أي كفاءة تقنية خاصة . و المثال على ذلك النشاط الصناعي لليبيي جربة المواكب لجيرانهم أكلة اللوتس (Lotophages) الذين يستخرجون الخمر من ثمار العنّاب , و تكمن المرحلة الثانية في زبر الزيتون البرّي و تحويل غابة زيتون بري الى بستان زياتين غير منتظم و بأشجار هرمة في كثير من الأحيان , و هي شبيهة بذات الاشجار البرّية المزبورة التي تغطّي سفوح جرجرة و الريف و زرهون ” .
و توجد كلمة امازيغية خالصة للدلالة على زيت الزيتون و هي “أوذي” التي تُستعمل لحد اليوم في غدامس و في نفوسة تُحرّف الى “ذي” . و يرى “إيميل لاووست”[7] أنها أقدم صيغة امازيغية لزيت الزيتون .
فالأمازيغ إذن كانوا يُطعِّمون الزيتون و يتّخذون منه البساتين و يصنعون الزيت وفق المعطيات التاريخية و الألسُنية , و القول أن البحّارة الفينيقيين هم من علّموهم هذه التقنيات البسيطة هي كذبة أخرى من أكاذيب عثمان سعدي ينقلها عن مؤرّخي المدرسة الكولونيالية  .

 يوغرطا حنّاشي

[1] ستيفان قزال , تاريخ شمال إفريقيا القديم الجزء 4 , صفحة 18

[2] نفس المصدر , الصفحة 20

[3] نفس المصدر السابق , الصفحة 19

[4] Emile Laoust , Mots et choses berbères , p. 447

[5] “ماسينيسا أو بدايات التاريخ ” غابريال كامبس ترجمة العربي عقون .

[6] نفس المصدر السابق

[7] Emile Laoust , Mots et choses berbères , p. 446

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى