تاريخ

في الرد على تخوين الأڨليذ ماسينيسا

بعد أن فشل أصحاب الفكر العروبي الإقصائي  في حربهم الشعواء ضد الهوية الأمازيغية , يقومون اليوم في محاولة يائسة لإشاعة بعض الشُبهات و الأباطيل التاريخية , بالطعن في أحد أبرز رموز التاريخ الأمازيغي ألا وهو الأڨليذ ماسينيسا  .و ذلك بالتدليس و تحريف الوقائع التاريخية لكي يجعلوا منه خادما ذليلا للرومان.
وهم بذلك لم يأتوا بشيء جديد و إنما قاموا بإستعمال بعض الحجج الواهية  للمؤرخين الفرنسيين الذين أسسوا للنظرة الكلنيالية التي ترتكز على تقزيم تاريخ شمال إفريقيا و أبرز شخصياته و جعلهم مجرد تابعين للإمبراطورية الرومانية .  و بهذا تُشرعن هذه الإديولوجيا الكلنيالية لإحتلال شمال إفريقيا  بإعتبار فرنسا الوريثة الشرعية لروما.
نقوم في هذا المقال المتواضع بتسليط الضوء على مسيرة هذا الملك العظيم و كشف زيف هذه الإدّعاءات .يوغرطا حنّاشي

أولا : ظُلم و تغطرس أثرياء الأوزليڨارشية القرطاجية و إحتقارهم للأمازيغ

تُروّج بعض الأطراف لكذبة تاريخية مفادها أن  قرطاج كانت إمبراطورية أمازيغية و أن ماسينسا عندما تحالف مع الرومان قد خان شعبه . و الحقيقية أن  قرطاج و بالرغم من  أن   القِلة من سكانها كانوا من دم فينيقي خالص[1] إلا أن حكامها الممَثلين في الأشفاط  و  التجار الأثرياء كانوا مجرد مُعمرين لا يمكلون أي إنتماء للوطن و أن هذه الأوليغارشية الجشِعة لم تتوانى في التوسع في داخل إفريقيا على حساب أراضي المملكة الماسيلية و إرهاق كاهل الفلاحين النوميد بالضرائب .
و أحسن مثال على وحشية القرطاجيين هي التخلي على جيشهم المكون في أغلبيته من الأمازيغ في جزيرة صقلية سنة 409 حين مات الآلاف منهم جوعا  وعاد من تبقى منهم بقيادة “ماثوس” و أعلنوا الحرب على قرطاج في ما يُعرف في التاريخ ب”حرب المرتزقة” التي كادت أن تدمر قرطاج  . يذكر آندري جوليان أن النساء النوميديات بِعن حليهن لتمويل جيش المتمردين الذي حارب قرطاج مدة ثلاث سنوات كاملة و كاد أن يسحقها من الوجود لولا لإنقسامه في أخر لحظة. (أنظر مقالنا في النسخة الفرنسية ) .
فقد ذكر المؤرخون قسوة القرطاجيين و مبالغتهم  في سفك الدماء  فيقول “بلوتارك”  Plutarque  : ” هذا الشعب مليء بالمرارة مُتجهم , مُتذلل لمن يحكمونه , عنيف تجاه من يخضعون له ,  خسيس إذا خاف , كثير الوحشية إذا غضب , لا يتردد في عزماته . قسوته تجعله خصما للأشياء اللطيفة و المستحسنة “.  و يكتب أبيان Appien من جانبه قائلا :” القرطاجيون  في الإزدهار هم غير عادلين  , وهم وقِحون تجاه الجميع , لكنهم يظهرون التواضع إذا ساءت حالهم” .
ويضيف كامبس في نفس السياق “و المؤكد هو أن المذابح , و التعذيب و الإغتيالات و القتل التعبّدي , كل ذلك كان له مكان عريض في التاريخ البونيقي . و إن حرب سنة 409 في صقلية , و الصراع ضد المرتزقة و الافارقة الثائرين , ولربما أن حروبا أخرى تغيب عنا تفاصيلها , قد انطبعت بمذابح مرعبة “.

ثانيا : خيانة أشفاط قرطاج لماسينيسا  وتجريده من عرشه
كان ماسينيسا ما بين 212 أو 211 إلى 206 مقيما على رأس جنده في إسبانيا يقاتل إلى جانب قرطاج ضد الجيش الروماني وكانت أرض إيبيريا شاهدة على بطولات القائد النوميدي و جيشه الذي حقق إنتصارات مبهرة ضد الجيوش الرومانية .
عند وفاة والده ڨايا لم يكن ماسينيسا مؤهَّلاً لتولي العرش الذي استلمه عمّه أوزالاس (Oezalès)، وتسارعت الأحداث بعد ذلك فما لبث هذا الأخير أن توفّي بعد أخيه ڨايا بمدّة وجيزة، فاستلم العرش ابنه البكر كابوسا (Capussa) الذي مات بدوره بعد ذلك . وطبقا للأعراف أصبح ماسينيسا الوريث الشرعي للعرش الماسيلي لكن أشفاط قرطاج الذين كانوا مطّلعين على حنكته العسكرية الكبيرة و تعلق المقاتلين النوميد به ,توجّسوا خيفة منه , فملكٌ قوي مُطاع من شعبه يمكنه أن يشكّل خطراً على الإمبراطورية القرطاجية .
فرغم الإنتصارات الباهرة التي حققها لصالحهم , لم يتردد أشفاط قرطاج في تنصيب طفل صغير ملكا للماسيل وهو لاكوماز (Lacumazès) اخ كابوسا وكان أقلّ سنّاً من ماسينيسا ولكنه كان مدعوما من شخصية قوية مُقربة من سيفاقس و هو “ماس ايتول” (Mazaetull) وهو ما اعتبره ماسينيسا -الذي أصبح هو المؤهّل- خرقا للعُرف واعتداءً على حقّه في العرش بعد أن توفّر فيه شرط السنّ فقرّر العودة إلى إفريقيا لإسترجاع حقه [2].

ثالثا : تحالف ماسينيسا مع سيبيون لإسترجاع عرشه
بعد أن غدر حلفاءه القرطاجيين به و أسروا والدته و زوّجوا خطيبته صوفونيسبا لخصمه سيفاكس , وجد ماسينيسا نفسه مجبرا على قبول عرض سيبيون الإفريقي بالتحالف معه ضد قرطاج .
و بعد حروب كثيرة تمكن ماسينيسا من إسترجاع عرشه و قام بتوحيد نوميديا وإتخذ عاصمة لها مدينة سيرتا . بعد ذلك , قام تدريجيا بإسترجاع  المدن و الأرياف النوميدية التي كانت ملكا لوالده ڨايا قبل أن تسطوا عليها المافيا القرطاجية . فأثبت ماسينيسا بذلك أن إستراتيجيته في التحالف ظرفيا مع الرومان كانت صائبة .

رابعا : إسترجاعه لأراضي أجداده
بعد ما إنتصر على الجيش القرطاجي و حليفه سيفاكس , انطلق ماسينيسا إلى أراضي أجداده يسترجعها من أيادي قرطاج كما تقدم . هذا الإسترجاع لم يكن بشكل متسرع و فوضوي وإنما تم بتأنٍ و وفق سياسة مدروسة مستغلا إطلاعه الكبير على القانون الروماني  كما يقول كامبس :” التأني الحذر هو السبب الذي جعل ماسينيسا يسلك أثناء توسعاته ذلك الأسلوب الحكيم , فمع أنّ اتفاقية 201 تعترف لقرطاج بامتلاك  أقاليم محدودة بالخنادق الفينيقية ولكن كان مسموحا لماسينيسا أن يطالب داخل تلك الحدود بأراض كانت مملوكة لأسلافه , هذا الشرط كان بمثابة الدودة في الثمرة , وقد قام سوماني Charles Saumagne بتوضيح الحجج القانونية التي اثارها ماسينيسا في وجه خصومه , فتارة يهاجم “عيوب الإمتلاك” ليس فقط فيما يخص الأقاليم  المطالب بها و لكن كلّ ما في أيدي قرطاج سواء بالعنف أو بصفة مؤقتة , فمصدر الإمتلاك غير عادل , لأن قرطاج ليس لها “ملكية خاصةProprius ager ” بإفريقيا , وملكية الأقاليم المتنازع عليها هي بين أيدي الذي له القوة .  وتارة أخرى يستخدم حجّة أكثر دهاء و هي حسب سوماني ظهرت في تلك الأثناء لأول مرّة في القانون الروماني و هي حقّ الملكية jus possessionis و أضاف causa possessionis ثمّ أعلن أنّه الأعلى في الحالتين “.

خامسا : إزدهار المملكة النوميدية في ظل حكم ماسينيسا
لقد عرف الأڨليذ ماسنيسا كيف يبني دولة كبيرة  ومتطورة في جميع المجالات .يقول غبريال كامبس :” كان ماسينيسا شديد العناية بالفلاحة , وعرف كيف يستصلح الأملاك الملكية الكبرى التي تبدوا أنها كانت تمتدّ على مساحات كبيرة في عهده …..  وقد ترتّب عن تنامي الموارد الفلاحية وتطوّر المبادلات الداخلية إزدهار عمراني لم تكن سيرتا وحدها المستفيدة منه , فقد أصبحت الأسواق البسيطة مدنا  وشيّدت  مدن اخرى مثل “ماكوماداس” قطعة قطعة احتمالا بإرادة الملك  , ولم تفتقد العواصم الجهوية القديمة مثل ثوڨا و سيكا  و زاما في نوميديا الشرقية , يول و سيڨا  في نوميديا الغربية أهميتها أبدا ” [3].
أما في مجال التجارة فقد إزدهرت الموانيء النوميدية و إنفتحت على حوض البحر المتوسط فيقول كامبس : ” على عكس القرطاجيين الذين كانوا يغلقون الموانيء
الإفريقية في وجه الشعوب الأخرى , قام ماسينيسا بإجتذاب التجار الإغريق , المصريين , السوريين , وعلى الخصوص الإيطاليين “. و يضيف في نفس السياق ” من المظاهر الأكثر أهمية في أعمال ماسنيسا هي أنّه فتح الباب للإغريق لربط علاقات مباشرة مع الشرق و الغرب  هي الأولى من نوعها في تاريخ بلاد البربر دون وساطة قرطاج ” .

سادسا : مشروع  الوِحدة الإفريقية و تدخل روما لمنعه و تهديم قرطاج

واصل الأڨليذ بناء دولته النوميدية التي زادت إزدهاراً و توسعاً  إلى أن بلغت تخوم قرطاج , فكانت تمتد من مولوشا (ملوية) غربا إلى السيرت الكبير شرقا Grande Syrte  , وما تزال نوميديا تتوسع حتى قال المؤرخون ” لم يبق لماسينيسا سوى أن يمد اليد لأخد مدينة قرطاجة. و أكثرية القرطاجيين صاروا منقادين للمفاهمة معه “[4] .
إذ ظهر في ذلك الوقت  في قرطاج شبه إجماع على ضرورة تسليم قرطاج لماسينسا  لتحقيق الوِحدة الإفريقية المنشودة و بناء مملكة إفريقية كبيرة يمكنها أن تقارع روما . لكن الأوليڨارشية المركانتيلية في قرطاج إعتبرت مؤيدي ماسينسا خونة و قامت بنفي أربعين منهم. وبالمقابل فإنّ روما كانت تريد استمرار قرطاج الضعيفة ولا تريد أن يحسم ماسينيسا الأمر لصالح مشروعه “الوحدوي” بل وتعمل على منع حصول ذلك وتريد أن يطول النزاع بين الطرفين لاستنزاف قواهما، لأنّها لا تريد على الإطلاق أن يدخل ماسينيسا قرطاج وأن يتوّج ملكا على أفريقيا الموحّدة[5]. وهو الشيء الذي تفطن إليه “كاتون” عندما قال عبارته الشهيرة أمام  مجلس الشيوخ : “فلتُدمّر قرطاج delenda Karthago” .

الخلاصة :
لقد أجمع المؤرخون الغربيون القدامى منهم و المحدثين  كبوليبيوس , تيتوس ليفيوس , أبيانوس , شيشيرون , زونار و كامبس , على مدح ماسينيسا و الإطراء عليه , فيقول كامبس مثلا : ” يمكن تفسير طول مدّة حكم ماسينيسا بشخصيته  و بقوته البدنية و المعنوية التي جعلته يحكم وحده دون إشراك أحد في القرارات الحاسمة حتى أبناءه و هي القوة التي سمحت لهو وهو في الثامنة و الثمانين من عمره بقيادة العمليات الحربية ضد القرطاجيين . و إلى وفاته ظلّ ماسينيسا يحتفظ في وضوح تام بسلطة لا جدال فيها على أفراد عائلته ” .
أما بوليبيوس فيقول :” إنّ ماسينيسا هو الأمير الكامل و الأسعد في عصرنا …. لقد حكم أكثر من ستين سنة , وتوفي عن عمر يناهز التسعين … ” ثم تأتي عبارة تمتدح قوته الجسدية ” وقد إحتفظ ببنية قوية تمكنه من الوقوف يوما كاملا في مكان واحد … و إن إقتضى الحال يمكن أن يبقى على صهوة  جواده  الليل و النهار دون أن يكلّ ”  ثم يختم بهذه العبارات ” ليس هناك  ما هو أحقّ من  إطراء هذا الأمير و تكريم ذِكراه”.
لقد إحتل الأڨلّيذ مكانة بارزة في المصادر الأدبية الإغريقية و اللاتينية على السواء , التي أشادت به وبأعماله , أمّا المؤرخون المحدثون فقد نبّهوا إلى أهمية “مشروعه” الذي يتجاوز توحيد كل “تامزغا” , كما يستفاد من الشعار الذي اطلقه وهو “إفرقيا للأفارقة”  .

يوغرطا حنّاشي

[1] تاريخ شمال إفريقيا , ستيفان ڨزال

[2] أنظر مقال الأستاذ العربي عڨون “الملك ماسينيسا (238-148 ق.م.) ماسنسن، من استعادة حقّه في العرش الماسيلي إلى بناء الوحدة النوميدية” -إينوميدن .

[3] ماسينيسا أو بداية التاريخ . غبريال كامبس

[4] نفس المصدر السابق

[5] نبذة عن حضارة نوميديا وعرش ماسنّسن الملك ماسْنّسَنْ (ماسينيسا) والحضارة النوميدية, العربي عڨون- إينوميدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى