التاريخ الحديث

1 نوفمبر 2017 : ماذا قدّمت لنا الشرعية الثورية؟

تحلّ اليوم، الذكرى الثالثة والستون (63) لاندلاع الثورة التحريرية الكبرى، منطلقة من المنطقة التاريخية الأولى “أوراس-نمامشا”، معلنة بدء مسيرة التحرر من الاستعمار الفرنسي الذي دام لأكثر من قرن وربع.

ڨاسمي فؤاد
ڨاسمي فؤاد

“منطقة آوراس-نمامشا، كانت بحقّ مهدَ الثورة ومحرّكها، وإلّا لما كانت سمّيت أصلا بالمنطقة التاريخية “الأولى”، فكونها الأولى، لا يحتمل التأويل ولا التقوّل: آوراس هو المصدر، والرائد والقائد، الذي لولا شجاعة وتضحيات أبنائه لما كانت الثورة أصلا ولا بدأت مشوارها، ولما واصلته، ولتأخر النصر على فرنسا سنوات” – مقال إينوميدن

“في اليوم الموالي لهجومات أوّل نوفمبر، تصدّر “آوراس” عناوين الجرائد الفرنسية وشغل حديث العام والخاص، في كامل أرجاء البلاد. واقع تاريخيّ مثبت، رغم الشكوك التي يرفع أصحابها أصواتهم هنا وهناك، اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، حيال كون هذه المنطقة مهد الثورة التحريرية، والتي أصبحت “مشروعة” في قاموس “الوطنيين الجدد”.“الأوراس في حالة تمرّد” – جريدة Le Figaro يوم الثاني من نوفمبر 1954

هؤلاء الوطنيّون الجدد، الذين لا يجدون اليوم حرجًا في اتّهام “الولاية التاريخية الثالثة” (منطقة القبايل) بالعمالة لفرنسا، ويجرؤون بغرابة على كون ميليشيات “الزواف” الاستعمارية، كانت قبايلية حصرًا. نفس “الوطنيين” لن يتوانوا غدا، وهذا قريب، عن التنظير لكون ميليشيات الصبايحية والميهاريست، كانت شاوية حصرا.

بعد أن تحوّلت الثورة، من تاريخ مجيد إلى لعبة بأيدي أطفال افتراضيين، يعملون على مرأى ومسمع من الجميع، بكلّ جدّ، على تحوير التّاريخ وتحويله إلى سرديّات عجائز تكرّس لتنحيّة الفاعلين الحقيقيّين فيه، وتحويلهم إلى خونة، من أجلٍ “ركوب” أفضل وأكثر ثباتا على “دابة الدولة” الشرعية.

وعلى ما سبق، رغم “الوطنية الجديدة”؛ لا جدالَ في أنّ المنطقة الأكثر شرعية في التاريخ الثوري، هي: بلاد إيشاويّن/المنطقة التاريخية الأولى/آوراس-نمامشا. هذا في “دولة” إنبنت ولا تزال تسيّر على معيار أساسي ورئيس هو: الثورة، والشرعية الثورية.

قد يخيّل إلى الجاهل بالواقع السياسي، الاقتصادي والاجتماعي في دزاير، أنّ هذه المنطقة في دولة أقوى العملات تداولا فيها هي “الشرعية”؛ تتمتّع بمميزات لا حصر لها، باعتبار شرعيّتها. والواقع أن المخيال الدزيري، أيام كانت نشرة الثامنة مساءً ترسمه، تشبّع بخرافات وأساطير من قبيل : الشاوية يحكمون البلاد، فسيطرت على الجزائريين قناعة لا جدال فيها بأن الشاوية يعاملون معاملة مميّزة لأنّهم “دارو الثورة”. لكنّ حلول عصر “المعلومة الآنية” والطفرة التواصلية التي أحدثتها الإنترنت، سرعان ما منح فرصة حقيقية لأبناء المنطقة ممن يصفهم “الوطنيون الجدد” بـ”العنصريين” و”الخونة” و”الانفصاليين” لتغيير ذلك، وتوضيح الواقع كما هو:

الواقع يا سادة أنّ هذه المنطقة “تُعَاقَبُ”، دوريّا وبصفة منتظمة ومنهجيّة، بحرمانها، وتجاهل وجودها، واستثنائها من أي مخطط رسمي، أكان تنمويّا أو اقتصاديّا أو سياسيا. كأنّ سلّال بقولته الشهيرة، عبّر عن توجّه تسييري وسياسيّ ما، للحكومة والنظام “الجزائري” تجاه هذه المنطقة.

“شاوي حاشا رزق ربي” – عبد المالك سلّال

وقد تكون الأسباب المعلومة والمجهولة – لهذا العقاب – كثيرة جدّا؛ بعضها قد يتحوّل إلى نظرية مؤامرة بلمح البصر، يستطيع أيّ كان أن يمطّطها ويلوكها ويحوّلها إلى بكائية ونوح يتردد ليل نهار، يتّهم مناطق بأسرها بالتّآمر على بلاد إيشاويّن والتحالف مع فرنسا – بعد الاستقلال – لعقابها، نظير ثورتها ضدّ الاستعمار. يستطيع أيّ كان أن يتّهم أحفاد رؤوس ميليشيات الصبايحية والميهاريست والقوّاد العرب والحركى والقومية الذي وقفوا مع فرنسا ضدّ ثورات المنطقة المتتالية، ثمَّ عادوا بعد الاستقلال واستغلّوا الفراغ الذي تركته عمليات التصفية والاغتيالات الواسعة التي طالت قيادات المنطقة التاريخية الأولى، ويؤسّس لهكذا نظرية. ولن تعوز أحدا الأدلة التاريخية المثبتة لتمركز ميليشيات وتنظيمات كهذه في مناطق دون أخرى، لكن إلى أين سيأخذنا هذا؟!…

في منطقة متخلّفة تنمويّا واقتصاديا، ومتأخرة اجتماعيّا وأكاديميّا، ومفرغة تماما من أيّ إمكانية لتطوير الذات، معتمدة كلّيا على جهاز تنفيذي مركزيّ عاصميّ، يضعها، حتّى في خطط توزيع خدمات شركات الاتّصالات في المرتبة الأخيرة، ماذا ستكون فائدة نظرية أخرى مبنيّة على الشرعية الثورية؟ بل إنّ السؤال الواجب طرحه حقّا: ماذا قدّمت لنا الشرعية الثورية؟

سوى بعض النصب التذكارية الرديئة، والتدشينات الرسمية لشبكات مجهرية للغاز الطبيعي وسط “مدن حيّة” وبعض التصريحات الجافّة هنا وهناك، وبعض الاحتفالات المناسباتية المتضائلة التي يسرع إليها المسؤولون الوافدون إلى آوراس من العاصمة، في زيارات مكوكية، متنازلين تدريجيّا: من وزير أوّل إلى وزير الشباب والرياضة إلى وزير الشؤون الدينيّة إلى مسؤول جهويّ ثم والٍ ومن يدري، ربّما تقام الاحتفالات الرسمية بنوفمبر ذات سنة بحضور إمام مسجد الحيّ فقط! ماذا استفادت بلاد إيشاويّن من شرعيّتها وشرعية النظام الحاكم، الثورية؟
أتركُ السؤال مطروحا، لعلّكم تجيبون!…

فؤاد قاسمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى