التاريخ الحديث

يوم بعد الفاتح من نوفمبر 54

” يجب أن يكون لدوي ثورتنا صدى في جميع أنحاء العالم” محمد العربي بن مهيدي

صالح لغرور، أستاذ ومؤلف كتاب "عبّاس لغرور من النضال إلى الكفاح. الولاية الأولى أوراس-نمامشة"
صالح لغرور، أستاذ ومؤلف كتاب “عبّاس لغرور من النضال إلى الكفاح. الولاية الأولى أوراس-نمامشة”

تصدرت “أحداث” أول نوفمبر كما سمتها الصحافة الفرنسية عناوين الصحف الاستعمارية وصحف البلدان العربية وكذلك معظم الصحف الدولية. استيقظ الجزائريون صبيحة أول نوفمبر، منهم من هو فخور ومنهم من هو حائر وقليل منهم غير مبال.

اكتشف الخناشلة (نسبة إلى خنشلة) تصدر اسم مدينتهم كل الصحف الاستعمارية، لقد أصبحت مدينتهم في قلب أول ثورة وطنية، كما اكتشف الجزائريون في نفس الوقت وجود هذه البلدة الصغيرة المغمورة، التي تربط بين جبال الأوراس وجبال النمامشة، أين انطلقت الشرارات الأولى للثورة التحريرية، هذه الثورة التي سوف تضع حدا للحكم الاستعماري الذي دام لأكثر من قرن. هذه المدينة الغير معروفة بالنسبة للكثيرين، مع أنها كانت في وقت مضى مدينة ذات أهمية كبيرة وذات موقع استراتيجي، تقاطعت فيه أحداث هامة من تاريخنا الوطني.

كان من المفروض أن يتصدر عناوين صحف هذا اليوم خبر الانتخابات في الولايات المتحدة، أو أي حدث كبير، كإعادة توحيد الألمانيتين مثلا، أو حتى خبر تتويج الملكة Marie من قبل Pie  الثاني عشر، لكن حدث أول نوفمبر بالجزائر، اعتبر أهم من ذلك كله و فرض نفسه في احتلال الصدارة ، لقد ترك أثره في العقول وأيقظ الضمائر والمشاعر.

هذه بعض العناوين الصحفية التي كتبت عن ” الحدث” كما سماه الفرنسيون الذي هو في الحقيقة بداية ثورة؛

  • جريدة “La Dépêche de Constantine”: “سلسلة من الهجومات الإرهابية في الجزائر، ومقتل ضابط وجنديين في “خنشلة” و”باتنة””.
  • جريدة “Le Monde” :  “مقتل العديد من الأشخاص خلال هجومات مسلحة متزامنة استهدفت مراكز الشرطة بالجزائر”.
  • جريدة “France Soir “: “ظهور مفاجئ للإرهاب بالجزائر”.
  • جريدة ” Le Figaro”: “الأوراس في حالة تمرد”.
  • جريدة “Paris Presse “: “ثلاثون هجوما هذه الليلة بالجزائر”.
  • جريدة “Echo d’Alger”: “ثلاثون هجوما إرهابيا في وقت واحد بالجزائر”.
  • جريدة”le Journal d’Alger “: “سلسلة من الهجومات الإرهابية أمس بالجزائر، بعد الفلاقة، الإرهابيون … لا بد من اتخاذ إجراءات عاجلة”.
  • جريدة “La Dépêche Quotidienne”: “إرهابيون ينشطون بمناطق مختلفة بالجزائر”.
  • جريدة” L’Echo d’Oran”: “ليلة الأحد إلى الاثنين من “خنشلة” إلى “كاسينى” هجومات إرهابية بالتراب الجزائري”.

شرعت الصحافة الفرنسية في تحليل ” الأحداث”، ابتداء من اليوم الثاني من شهر نوفمبر، حيث اعتبرتها

مجرد عمل قامت به مجموعات صغيرة تعمل بشكل منعزل وبطرق بدائية، هذا في المدن الكبرى، أما في منطقة الأوراس فان هذه الأحداث أخذت شكل التمرد الحقيقي، لكن القاسم المشترك بين هذه الأعمال، هو أن كل هذه العمليات العسكرية تمت في وقت واحد وشملت كل التراب الوطني، وهذا دليل على أننا أمام عمل منظم ومدروس[1]

تفاجأ السكان صبيحة أول نوفمبر بـ”خنشلة” ، بالعدد الهائل من الجنود الذين راحوا يجوبون المدينة على سيارات الجيب والشاحنات ،وتضاعف عدد الاعتقالات بين المواطنين.

قال البعض : “يريدون محاربة فرنسا بالعصي والحجارة! إنهم مجانين. البعض الآخر قالوا:”داروها  يابورب” أي : لقد فعلوها يا الله!. هذا يعني أنهم انتقلوا إلى الفعل، يا لها من جرأة !… أما بالنسبة لأغلبية السكان، فقد أخذوا يتساءلون عن سبب وجود هذا العدد غير المعتاد من الجنود

صادف اليوم الثاني من شهر نوفمبر يوم الثلاثاء، وهو يوم السوق الأسبوعي بمدينة “خنشلة”، كان الجو باردا والأمطار تتساقط بكميات شحيحة، أعادت الأمل للفلاحين في بداية حملة الحرث بعد طول انتظار.

معظم المتسوقين والفلاحين يلتحفون برانيسهم أو قشابياتهم، كانت رؤوسهم ملفوفة داخل شاش ابيض أو قريب من البياض، بعضهم يقف بجانب مواشيه وسط الضوضاء والضجيج   وهو خليط من خوار البقر وصهيل الخيول وثغاء الأغنام، بالإضافة إلى صراخ التجار والمداحين، هرج ومرج لا يمكن وصفه، كل هذا مضاف إليه تلك الروائح الغريبة المكونة من براز وأنفاس مختلف المواشي ومن روائح التوابل والأعشاب الموسمية.

حتى ان درجة البرودة بدأت تخف من شدة ذلك الازدحام وتلك الحرارة التي كانت تنبعث من أنفاس الأبقار والأغنام والخيول، وكذا الحركة العشوائية المستمرة للمتسوقين.

كل هذا لا يعبر عن جو السوق المعتاد، فالوجوه كانت متجهمة والعيون حائرة، مما يعبر عن مدى القلق السائد هذا الصباح، المتسوقون يتجنبون الحديث عن هذه ”الأحداث”، ففي الواقع كانوا يجهلون حقيقة ما يجري، يضاف الى ذلك الخوف من العساكر المحيطة بالسوق والمدججة بالأسلحة وهي على أهبة إطلاق الرصاص.

القوات الفرنسية توقف وتفتش الجميع بدون استثناء، بعض الأشخاص تم اعتقالهم وصودرت أوراق هوياتهم، لقد ساد الخوف والقلق، بعض هؤلاء المعتقلين أخذوا يتساءلون عن سبب اعتقالهم، أما البعض الآخر من نشطاء حركة الانتصار للحريات الديمقراطية “MLTD” خمنوا سبب ذلك بسهولة.

بعيدا، وفي مكان آخر بالجزائر العاصمة مثلا:

كان أول نوفمبر بالنسبة للمواطن الجزائري البسيط​​، يمثل يوما كباقي الأيام التاريخية التي   لم يقدر أو يستوعب حجمه كبداية لحدث… كذلك الأمر عندما أعلنت الصحافة الفرنسية في عناوينها الكبرى عن سلسلة الهجومات التي وقعت صبيحة الفاتح من نوفمبر 1954، في مختلف أنحاء الجزائر.كانت ردود الأفعال مختلطة ومتباينة.

ساد الارتياح في أوساط الشباب المتشبعين بالأفكار الوطنية، في حين كان القلق والتخوف عاما بين الإطارات السياسة التقليدية، فهم يعلمون وبالتجربة كيف يتم قمع كل ثورة في كثير من الأحيان بوحشية على حساب الآلاف من الضحايا الأبرياء… أما بالنسبة للأوروبيين، فقد تحولوا من موقف السخط إلى موقف الغضب… عند هؤلاء جميعا يجب القول أن هناك سؤال يفرض نفسه ويبقى مطروحا دون إجابة: من الذي قام بهذه الحركة، بهذا القدر من التنسيق والتنظيم إلى درجة أنها صدمت   سلبت كل الانفس “[2]

حياة الكرامة والشرف:

بالرغم من أن النتائج المادية لهذه العمليات لم تكن في مستوى توقعات قادة الثورة، إلا أن العناوين الضخمة التي غطت هذا الحدث في الصحافة الاستعمارية كانت في حد ذاتها انتصارا كبيرا في نظر المبادرين لهذا العمل المسلح، زيادة عن العناوين التي نشرت في الصحافة العربية والدولية، وسمحت بأن يسمع صوت الجزائر في كل مكان في الجزائر وفرنسا وفي كل أنحاء العالم!

الآن فقط، يمكن للوفد الخارجي لجيش وجبهة التحرير الوطني أن يتحدث وهو مرفوع الرأس عن قضية الجزائر، ويرفع مشعل الثورة وصوت الجزائر عاليا.

سمع صوت الجزائر من خلال معظم الإذاعات في العالم، في القاهرة أعلن في إذاعة

“صوت العرب” عن بداية الثورة التحريرية: “على الساعة الواحدة صبيحة هذا اليوم بدأت الجزائر تعيش حياة الكرامة والشرف“.

لقد تم أخيرا وضع خط للمسار الثوري، وأعطيت إشارة الانطلاق بإشعال فتيل الثورة.

هجومات عديدة وقعت في أماكن مختلفة، حوالي ثلاثين هجوما، وفقا لما أوردته الصحافة الفرنسية آنذاك، لكن عددها كان أكثر بكثير، أي ما يقارب 70 عملية مبرمجة ناجحة بنسب متفاوتة (بعض العمليات لم تنفذ)، والأهم أن معظمها نفذ بالفعل، لقد رسم أخيرا خط الانطلاق لهذه الثورة، وخط القطيعة النهائية مع الاستعمار.

اعتبرت السلطات الاستعمارية  في الوهلة الأولى هذه العمليات مجرد تمرد قبلي محلي، كما كان الحال في الثورات السابقة ،لكنها كانت مخطئة، فقد أدركت لاحقا أن الأمر ليس كذلك هذه المرة، وهذا مقتطف من تقرير الجنرال “Cherriere” يوضح فيه هذه الرؤية

“… إن الجيش يعتقد أنه في مواجهة مشكلة سبق له التعرض لها في شمال أفريقيا منذ عقود ، وهو  قمع متتالي لتمردين محصورين  في منطقتي ( الأوراس والقبائل الكبرى)،  لخصم نسبيا قليل العدد والعدة، سطحي و محبط، وبارع في حرب العصابات… النتائج الفورية جعلتنا نعتقد في الوهلة الأولى أننا أمام انتفاضة قبليه مماثلة لتلك التي ميزت تاريخنا في شمال إفريقيا…” [3]

في “خنشلة”، بالرغم من أن النتائج لم تكن في مستوى توقعات عباس لغرور ورفاقه، إلا أن ما حدث بالمقارنة بما حدث في مدن أخرى اعتبر نجاحا عسكريا وإعلاميا كبيرا، فقد قتل ضابط (أول ضابط ضحية حرب التحرير في صفوف الجيش الفرنسي)، كما تم قتل جنديين، وتكبيل أعوان الشرطة وتجريدهم من أسلحتهم، بالإضافة إلى تصدر اسم “خنشلة ” العناوين الأولى للصحافة الاستعمارية.

فيما بعد، انتشر أوائل ثوار “خنشلة” نحو الشرق، نحو نواحي “مسكانة”، “تبسة” و”سوق أهراس”، و الشمال نحو نواحي “عين البيضاء”، “الخروب” و”قالمة”، أما نحو الغرب فقد تم ربط الاتصال بثوار نواحي “باتنة”، “أريس”، “بوحمامة”، كما امتد نشاطهم نحو الجنوب الى نواحي “ششار”, “بابار”؛ “تبردقة”؛ “خنقة سيدي ناجي” و”بسكرة”.

بعد عدة أشهر عمت الثورة كل نواحي اوراس-النمامشة، وتعدتها إلى نواحي بعيدة مثل: “سطيف” و”مسيلة” و”بوسعادة”، وإلى أقصى الجنوب.  تجدر الاشارة الى انه نظرا لأهمية موقع ناحية واد سوف الاستراتيجي في نقل السلاح طلب بن بولعيد عدم القيام باي عمل عسكري هناك.

لقد بدأت الحرب، إنها حرب حقيقية ستستمر لقرابة ثمان سنوات.

تفاجأت الأحزاب السياسية والجمعيات الجزائرية واندهشت لما حدث، فراحت تترقب ما ستؤول إليه الأحداث وتنتظر عواقبها ونتائجها، لتلتحق فيما بعد بالثورة بعد سنة من اندلاعها.

كثير من نشطاء الأحزاب المختلفة اعتقلوا، خاصة مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية “MLTD” بالإضافة الى عائلات الثوار التي تم تعذيبها وحجز البعض منها في معتقلات في ظروف لا إنسانية.

إن ما حدث هو التتويج المنطقي لأكثر من قرن من المقاومات والانتفاضات المتتالية نذكر ببعضها: “الأمير عبد القادر”، “الشيخ الحداد”، ” بوعمامة ”، “الزعاطشة”، “موحند أمزيان” بالأوراس عام 1879، انتفاضة الأوراس عام 1916، وأخيرا أحداث 08 ماي 1945، تلك التي أعلنت القطيعة النهائية مع فرنسا ومع أكثر من نصف قرن من المطالبة السلمية بالمساواة والكرامة والحرية.

كما صرح وأراد محمد العربي بن مهيدي   لقد دوي صوت الثورة الجزائرية ليس فقط في الجزائر بل عبر العالم. ليتوج بأكبر انتصار حققته الشعوب المستضعفة في التاريخ الحديث.

[1] جريدة Le Monde في: 02/11/1954.

[2] محمد لبجاوي “حقائق عن الثورة الجزائرية” إصدار ANEP 2005، إصدار غاليمار 1970.

[3] في مجلة الدفاع الوطني  (الفرنسي) ديسمبر 1956 منقول عن كتاب : Secrêt d’état  JH. Tournoux    إصدارPlon باريس عام 1960.

باسم عابدي

مهتم بالتاريخ بصفة عامة، أطلقت "المكتبة الرقمية الأمازيغية" سنة 2013، وهي مخصصة لتاريخ وثقافة الأمازيغ. وساهمت سنة 2015 في تأسيس "البوابة الثقافية الشاوية"، المعروفة بـ إينوميدن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى