أقلام حرّةبورتريهات

الموقف “الحقيقي” لبن باديس من الاستعمار الفرنسي

طفت الى السطح في الاسابيع الأخيرة مفاهيم مثل ” الدولة الباديسية ” , “المشروع الباديسي” , ” الرسالة الباديسية” و غيرها , نسبة الى عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين . المروّجون لهذه الشعارات على وسائل الاعلام او على منصات التواصل الاجتماعي محسوبون جميعا على تيار الثورة المضادة أو ما يسمى ب”الذباب الالكتروني” .
استحضار شخصية بن باديس في هذا الوقت بالذات هو استغلال لرمزية الرجل في المخيال الشعبي الجزائري و جعله في مواجهة “المشروع الفرنسي” أو “الدولة الصومامية الباريسية” المزعومة و التي يمثلها شباب الحراك . من يروج لمفهوم الدولة الباديسية كما هو واضح هي بقايا النظام البوتفليقي البائد لزرع التفرقة في صفوف الحراك الشعبي و اضعاف ديناميكيّته.
لكن السؤال المطروح هو : هل كان بن باديس حقا رمزا لمناهضة الاستعمار الفرنسي ؟  هل كانت لمؤسس جمعية العلماء مواقف  مشهودة ضد الادارة الاستعمارية ؟ هل يمكننا اليوم العثور على مقالات لبن باديس في مجلّاته  “المُنتقد” أو “الشهاب” ينتقد فيها سياسات الادارات الاستعمارية المتعاقبة ؟ .

فرنسا “العادلة” التي سوف “ترقّي الجزائر” في سلّم المدنية

الحقيقة ان خطاب بن باديس لم يكن ثوريا او صداميا  مع الادارة الاستعمارية بل كان خطابا مهادنا ادماجيا بعيدا كل البعد عن راديكالية الحركة الوطنية .
في العدد الاول من جريدة المُنتقد يكتب بن باديس  :
“إن الأمة الجزائرية أمة ضعيفة و متأخرة فترى من ضرورتها الحيوية أن تكون في كنف أمة قوية عادلة متمدنة لترقّيها في سلم  المدنية و العمران و ترى هذا في فرنسا التي ربطتها بها روابط المصلحة و الوداد . فنحن نخدم للتفاهم بين الأمتين و نشرح للحكومة رغائب الشعب الجزائري و نطالبها بصدق و صراحة بحقوقه لديها و لا نرفع مطالبنا إلا أليها ولا نستعين عليها الا بالمنصفين من ابنائها.
قائمين حسب الجهد بالواجب الصحفي الشريف صامدين الى غايتنا السامية و هي “سعادة الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديمقراطية”
[1] .

و حول مشروع  بلوم-فيوليت يكتب بن باديس مدافعا عن هذا القانون الادماجي الذي “سيُبقي الجزائر مرتبطة بفرنسا” :
“و ادرك اقطاب الجبهة الشعبية أن لا بقاء للأمة الجزائرية مرتبطة بفرنسا الا اذا اعطيت حقوق الجنسية الفرنسية السياسية مع بقائها على جنسيتها القومية بجميع مميزاتها و مقوماتها فتقدموا لمجلس الأمة الفرنسي بالقانون المعروف اليوم ببروجي بلوم-فيوليت و تلقاه الذين يقدمون مصالحهم الفردية والاستعماية على مصالح فرنسا الحقيقية بما هو معروف من معارضة بذيئة ظالمة منكرة و تلقته الامة الجزائرية التي ترضى بالارتباط بفرنسا في حقوقها وواجباتها –وهي الجنسية السياسية- مادامت محترمة في جنسيتها القومية و هي تلك المقومات و المميزات بشرط لا بد منه : وهو أن يكون التساوي تاما في جميع تك الحقوق دون تخصيص لحق دون حق ولا تمييز لطبقة عن طبقة .
و لهذا اعتبرت بروجي بلوم-فيوليت قليلا جدا بالنسبة لحقوقها وانما تقبله اليوم كخطوة  أولى فقط يجب بعد تنفيذها و ان يقع الاسراع في بقية الخطوات الى تحقيق التساوي التام العام الذي هو الشرط الطبيعي في سنن الاجتماع في بقاء الارتباط بصفاء و اخلاص ” [2].

و يؤكد على تمسكه بمشروع بلوم-فيوليت و فكرة الادماج في مقال آخر بجريدة الشهاب :
“إننا لا نعتقد أنه من سياسة فرنسا –فيما نعلم- أن تخلع الأمة الجزائرية جميع تقاليدها –عامة- و تصبح فرنسية محضة … و ليس من سياسيتها كذلك أن تبقى الأمة الجزائرية متمسكة بجميع عوائدها حتى الضارة منها الناشئة عن جهل بدينها , تلك , التي تبقى بها منحطة في أخريات الأمم  , بل سياسة فرنسا –فيما نحسب- هي ترقية الأمة الجزائرية محافظة على مقوماتها القومية و تقاليدها النافعة الملائمة مخلصة لفرنسا عاملة معها كعضو منها” [3].

اما في العدد الاول من ” الشهاب” يقول بن باديس أنه أسس الجريدة “لخدمة حكومتنا الفرنسية ”  :
“هذه جريدتنا اليوم التي سنخدم بها خير و نافع الأمة الجزائرية و حكومتها الفرنسية ….رجاؤنا من الأمة الجزائرية أن تسمع القول وتتبع أحسنه من جميع الكاتبين و رجاؤنا من حكومتنا الفرنسوية و رجالها الأحرار أن يتحققوا من إخلاصنا كجزائريين برهنوا في جميع المواقف على حسن  نواياهم نحو الوطن و إننا لا نريد إلا أن نعيش مع جميع أبناء فرنسا في حرية و أخوة و مساواة , متحابين و متعاونين على ما فيه سعادة الجميع , هذه تصريحاتنا و نحن بها عاملون “ [4] .
و يؤكد في العدد 32 من الشهاب على نفس هذه الفكرة :
“لقد تأسست هذه الصحيفة على أن تخدم الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديمقراطية في جميع مواقفها ترمي نفسها في سبيل الأمة حيث تسلم و كانت في جميع مواقفها متشبثة بالجمهورية الفرنسوية مستصرخة عدلها و إنسانيتها مستعينة بها على كل من يخرج عن مبدأ الحرية و الأخوة و المساواة “ [5] .
و في مقال بمناسبة العيد الوطني الفرنسي كتب بن باديس أنه كان “يترقب بشوق ملتهب حلول عيد الحرية الفرنسية في 14 يوليو من كل عام و هي ذكرى سقوط الباستيل La Bastille و انهيار عرش عائلة “البوربون” Bourbon  و حلفائها الإقطاعيين ” [6] .
ف”الباديسية”  كانت محصورة في  خطاب ديني متؤثر بحركات الاصلاح التي ظهرت في المشرق ترى ان الاولوية هي محاربة الطرق الصوفية و زعاماتها التقليدية و الاهتمام بالتربية و التهذيب (التعليم) عن طريق تبنّي قيم الحضارة الفرنسية “العادلة” و المتمدنة “لترقّية” الجزائريين  في “سلم  المدنية و العمران”. اما في جانبه السياسي فقد كانت الباديسية بعيدة جدا عن راديكالية الحركة الوطنية التي كانت تحارب جوهر النظام الكولونيالي و اذرعه .
فليس غريبا ان تصف جمعية العلماء المسلمين انطلاق الثورة المجيدة ب”الاحداث المؤسفة” و لا غريب كذلك عدم التحاقها بالركب الثوري الا بعد سنتين .
فمن اراد احياء “المشروع الباديسي” الحقيقي اليوم , عليه , تأسّيا ببن باديس , ان ينذر قلمه “لخدمة الحكومة الفرنسية”  و ان يتمسّك  بالقانون الادماجي بلوم-فيوليت و يعلن رغبته العيش مع “جميع أبناء فرنسا في حرية و أخوة و مساواة” و ان يترقب “بشوق ملتهب”  حلول عيد “الحرية الفرنسية في 14 يوليو من كل عام”.

يوغرطا حنّاشي

بن باديس, , هذه هي مبادئ “الباديسية” الحقيقة التي يجب على “الباديسيين الجدد” التمسك بها .

[1] المنتقد العدد الأول 11 ذي الحجة 1343 ه 2 جويلية 1925

[2] الشهاب غرة ذي الحجة 1355 ه , فيفري 1937

[3] ابن بادیس: ” خطاب الوالي العام للقطر الجزائري بالنیابة المالیة المسألة الأھلیة، ” الشھاب، العدد 21 ، قسنطینة 25 رمضان 1344 ھ، 8 أفریل 1926 م، ص 1

[4] ابن بادیس: ” الشھاب و المُنتقد”، الشھاب، العدد 1 . 25 ربیع الثاني 1344 ھ 12 ، نوفمبر 1925 م، ص1.

[5] ابن بادیس “أعمالنا وآمالنا “، الشھاب، العدد 32 ) 11ذي الحجة 1344ه، 24 جوان 1926 م، ص. 1

[6] ابن بادیس: ” عید الحریة 14 جویلیة، ” الشھاب، العدد 38 ، قسنطینة، 5 محرم. 1345 ھ/ 15 جویلیة 1926 م، ص 1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى