بورتريهات

محمد شفيق.. رجل المهام الصعبة الذي كافح من أجل الأمازيغية

من الصعوبة بمكان الكتابة عن مفكر ومثقف أمازيغي من العيار الثقيل من قبيل محمد شفيق، فهو يحمل وراءه مساراً طويلاً، ويعد أحد الأهرامات الفكرية بالمغرب، ذو فكر ثاقب متعدد الأبعاد، رجل ضليع في اللغة الأمازيغية وثقافتها وتاريخها، تعامل معها بمناهج تحليلية علمية صارمة.. بل وحتى العربية والفرنسية. ويعد أول المفكرين المغاربة الذين استنهضوا الوعي بالبعد الأمازيغي في الهوية الوطنية المغربية.. وبات يلقب بالأب الروحي للحركة الأمازيغية.

لا يُذكَر اسم محمد شفيق إلا مرتبطاً بالقضية الأمازيغية بالمغرب، فهو يعد أول المؤسسين لهذه الحركة التي توجت نضالاتها أخيراً بترسيم الأمازيغية لغة رسمية للدولة المغربية في دستور 2011 ، لكن لكي تصل الأمازيغية إلى هذا المستوى، خاض محمد شفيق معارك طويلة بالفكر والكتابة والنضال والحوار، كلها هذا بعقلانية قل نظيرها في زمنه..هذا البورتريه يحاول أن يلامس حلقات من مساره الحافل.

من
آيت سادن بدأ المسار

ولد شفيق سنة 1926 بمنطقة بير طمطم بآيت سادن، وهي قبيلة أمازيغية معروفة في الأطلس المتوسط، تقع على الطريق الوطنية قرب مدينة فاس تجاه مدينة تازة، تجاور آيت قبائل آخرى منها آيت وراين وآيت سغروشن، وهي قبائل ممتدة على مساحات شاسعة، واجهت الاستعمار الفرنسي، وأذاقته في السهول والجبال خسائر عديدة دفاعاً عن أراضيها ووطنها.
جمع شفيق بين مختلف التخصصات، فهو يعد أول مغربي يحصل على شهادة في الأمازيغية من الثانوية الأمازيغية أزرو التي أنشئت خلال الاستعمار الفرنسي، وكان يدرس بها عدداً من تلاميذ القرى المجاورة لمدينة فاس، إذ في سنة الحادية عشر، التحق شفيق كتلميذ داخلي بثانوية أزرو، ودرس المستوى الإعدادي والثانوي، وتخرج بدبلومات تعادل الإجازة والشهادة.
توجه محمد شفيق، بعد ست سنوات في ثانوية أزرو، إلى ثانوية مولاي يوسف بالرباط، لكن لم يكمل أكثر من عامين، بعدما كان من ضمن المنظمين لإضراب التلاميذ سنة 1944 ضد الاستعمار، وعمل على توزيع الأعلام المغربية بنفسه على المتظاهرين، لكن هذه المشاركة تسببت في وضع اسمه على اللائحة السوادء ممن لا يمكنهم ولوج الوظيفة آنذاك في عهد الاستعمار.

عاد الشاب شفيق أدراجه إلى آيت سادن، إلى أن نادى عليه فرنسي يدعى بيسون، كان مفتشاً للتعليم بثانوية أزرو، واقترح عليه مزاولة مهنة التدريس على ألا يرسل ملفه لوزارة التعليم لكي لا يتم رفضه، وهو ما تم بالفعل، والتحق شفيق لأول مرة بفصول الدرس في كل من ميدلت وزاوية الشيخ وزرهون وتيسة وفاس، وبعد سنوات كأستاذ للتعليم الثانوي بالعاصمة العلمية بفاس.
في زاوية الشيخ سنة 1945 ، وفي عمر لا يتجاوز 18 سنة، كان شفيق يعمل مدرساً، وحدث أن دعاه البشير عواد إلى العشاء، وهو مترجم مدني، وقال له“ :بما أنك لم تستقر بعد، أدعوك لوجبة العشاء اليوم”، حين جاء شفيق وجد في بيت مضيفه ضيوفاً آخرين منهم رجل يدعى أوسي حماد، قاضي المحكمة العرفية الأمازيغية، لأن آنذاك كانت المحاكم العرفية في القبائل الأمازيغية والمحاكم الفرنسية في المدن.
وخلال الحديث، خاطب البشير عواد أوسي حماد قائلاً: “لماذا لا تتخلون عن المحاكم العرفية وتطبقوا الشريعة الإسلامية” ، لكن القاضي أجابه بكل ثقة“حنا الشريعة كنديروها بالعقل.. في الشريعة إذا فقأ أحد عين آخر يحكم عليه بنفس الأمر، وهو ما ينتج عنه ضريرين، أما في العرف، فنحكم بأن يعطي المعتدي للضحية مقدار الخسارة من الغنم أو البقر وفق ما تحدده المحكمة، وإذا كان لا يملك شيئاً يعمل لصالحه مدة”.

يعتبر شفيق أن هذا اللقاء كان محطة مهمة في حياته، إذ هنا يكتشف أن الأعراف الأمازيغية القديمة لم تكن تطبق العقوبات الجسدية، وحتى في حالة القتل، فإن قاضي المحكمة العرفية أشار في جوابه على لحسن عود أن الحكم يكون بالنفي، وليس بحكم القتل أو الحبس، ومصدر ذلك حسب أوسي حماد هو القرآن، حيث تقول الآية: “إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض”.
خرج شفيق من منزل البشير عواد يحمل معه أسئلة كثيرة، يفكر في الأعراف الأمازيغية والشريعة الإسلامية، وبدأ مساره بالتفكير بشكل عقلاني في إرث الثقافة الأمازيغية وحضارتها وأعرافها، ويعتبر شفيق أن هذه اللحظة كانت بالنسبة له مُنبهاً غير مساره حياته بشكل كامل، وكانت بمثابة أول خطوة في طريقه كمفكر ومثقف مهتم بالتاريخ والدين.
بعد سنوات من التدريس بعدد من مناطق المغرب، اجتاز محمد شفيق مباراة المفتشين، ونجح فيها إلى جانب عبد السلام ياسين)مؤسس جماعة العدل والإحسان(، وتم تعيين هذا الأخير في الدار البيضاء، في حين رحل زميله إلى طنجة.
يحكي شفيق، حين زرناه بشقته في الرباط، أنه كان على علاقة طيبة مع عبد السلام ياسين، ويعرف أنه أمازيغي من مدينة مراكش، لكن لم يكن متفقاً معه بسبب“القومية الإسلاموية” التي تبناها عبد السلام ياسين فيما بعد، والذي بات بعد ذلك“المرشد العام لجماعة العدل والإحسان”، وحدث أن راسله عدة مرات في مواضيع عدة، إلى أن أصدر ياسين هذه المراسلات على شكل كتاب تحت عنوان: “حوار مع صديقي الأمازيغي” في حجم متوسط في 304 صفحات، عن دار الأفق بالدار البيضاء، سنة 1997 .

مهمات صعبة

قُدر لشفيق أن يعيش في مرحلة تحول صعبة بالنسبة للمغرب، عايش الاستعمار وعايش الاستقلال ويعايش مغرب اليوم، لكن كان له دور كبير في مغرب خمسينيات وستينيات وسبعينات القرن الماضي، إذ بعد سنوات من التدريس شغل منصب مفتش إقليمي سنة 1953 في الرباط، ثم مفتش أول عام 1965 ، وفي سنة 1968 تمت المناداة عليه لشغل مهمة مستشار التعليم في الديوان الملكي.
عام 1970 كان أحمد رضا كديرة وزيراً للتعليم، لكنه لم يفلح في مواجهة ما كانت تعيشه الجامعات المغربية من غليان وفوضى، وذهب إلى حد أن غادر الوزارة في عز الأزمة ولزم بيته، آنذاك اتصل الملك الراحل الحسن الثاني بمحمد شفيق، الذي كان مفتشاً أولاً في وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، ليصبح يومها نائباً لكاتب للدولة مكلفاً بالتعليم، ولو كان شفيق آنذاك منتمياً لحزب سياسي لأصبح وزيراً في الحكومة.

يحكي شفيق أن الملك الراحل اتصل به وطلب منه الذهاب إلى مكتب الوزير رضا اكديرة، وقال له: ”أريدك أن تذهب إلى مقر الوزارة، ستجد مفاتيح مكتب الوزير لدى المسؤولين، وإذا لم تجدها فليكسروا الباب، وادخل إلى المكتب، أنتظر منك تقريراً حول وضعية الجامعة المغربية وأسباب الغليان والفوضى التي تعيشها”.
بعد أيام من هذا التكليف، وجد شفيق ملفاً حول نقاشات الوزير اكديرة مع الطلبة، واكتشف أنه“كان يقول لهم بخصوص أي مطلب أنهم على حق”، ما يعني أن الوزير كان يبالغ ولم يكن يسعى لاحتواء الأزمة.. بعد هذه الوضعية اقترح شفيق على الملك الحسن الثاني عقد مناظرة وطنية هي الأولى من نوعها بالمغرب حول التعليم، يحضرها الأساتذة والطلبة وكل المهتمين، وقد ترأسها هو نفسه بمدينة إفران، كنائب كاتب الدولة في وزارة التربية الوطنية.
شفيق مديراً للمدرسة المولوية
لم يقف مسار شفيق عند هذا الحد، فبعد تكليفه بمهمة داخل الديوان الملكي حول التعليم، دخل المدرسة المولوية سنة 1976 كمدير لها ومدرس لولي العهد آنذاك محمد السادس، بعد أن بعث والده أحمد بنسودة، مدير الديوان الملكي آنذاك، إلى محمد شفيق يقول له إن الملك يريده أن يشغل منصب مدير المدرسة المولوية بالرباط.
شفيق لم يرد على هذا المرسول بسرعة، بل طلب مهلة تفكير لمدة يومين، وقال بعدها لبنسودة: “أنا مهنتي هي التعليم، لكن أريد أن أفهم بعض الأمور، لماذا أرادني الملك أن أكون مديراً؟ إذا أراد تربية تقليدية لولي العهد فعليه أن يحضر عالماً من القرويين فأنا لا أصلح، وإذا أراد تربية عصرية فيمكنني ذلك”.

اشترط شفيق أموراً عدة قبل دخول “كوليج رويال”، وتساءل حول تداخل المهام بين مدير المدرسة وبين وزير تربية الأمراء، وقال إنه لن يقبل إذا كان المسؤول عليه هو الوزير، كما أشار إلى أنه ليس مجبراً على الخضوع للبرتوكول الملكي حين خروج ودخول الأمراء، مؤكداً أنه هو رجل تعليم.. وكان له ذلك.
يتذكر شفيق يوم الإعلان الرسمي عن شغله منصب مدير المدرسة المولوية، حيث نظم الملك الحسن الثاني حفلاً كبيراً حضره وزراء الحكومة وكبار المسؤولين من مختلف المؤسسات والرتب، وخاطب شفيق آنذاك قائلاً: “هذا ولدي دابا راه ولدك”، وهو يشير إلى ولي العهد آنذاك، والملك محمد السادس حالياً.

درس شفيق للملك محمد السادس الترجمة واللغتين العربية والفرنسية والثقافة العامة لمدة ست سنوات، وبعد أن اجتاز امتحانات الباكالوريا وولج جامعة محمد الخامس بالرباط، اختار شفيق سنة 1982 أن يغادر المدرسة المولوية، وقدمت استقالته للملك الحسن الثاني مباشرة حين بدأ يولي اهتماماً للأمازيغية بشكل أكبر.
كان الوزير أحمد بنهيمة قد مر من وزارة التربية الوطنية، وكان يعرف جيداً محمد شفيق كمفتش للتعليم، وهو الذي اقترحه على الحسن الثاني من أجل مهمة في الديوان الملكي، كانت هذه المرة بخصوص المدارس القرآنية، حيث طلب منه الملك تقريراً حول التعليم في المساجد وقيمته البيداغوجية، وخلص شفيق بعد مدة في تقريره إلى أن التعليم في“المسيد”من بين أسباب ضعف المنظومة التربوية، لكن الملك آنذاك قرر عكس ما خلص إليه شفيق، إذ أصدر أوامر من أجل تعميم المدارس القرآني، يقول شفيق: “هذا الأمر بقي غصة في حلقي”.

كان شفيق متوجساً من هذه المهمة منذ الأول، إذ خاطب ادريس محمدي، وزير الداخلية آنذاك، قائلاً: “طبعي صعب، وأميل لفكرة اليسار وهذا قد يخلق مشاكل في هذا المهمة”، ليجيبه الحسن الثاني عبر وزيره في الداخلية: “احتفظ بطبعك وأفكارك.. ما أطلبه منك هو تقرير حول التعليم بالمغرب”.

خارج القصر الملكي داخل الحركة الأمازيغية

رغم أن محمد شفيق زار أسوار القصر الملكي وكلف بمهام داخله، إلا أنه كان يواجه خطر الاعتقال بسبب ترأسه لجمعية قدماء ثانوية أزرو، التي كانت قريبة من حركات اليسار خلال ستينيات القرن الماضي، ويحكي أن السلطات آنذاك قررت فرض حراسة مشددة على منزله ومراقبة كل من يزوره بسبب الجمعية التي كانت تضم رموزاً أمازيغية معروفة.

سنة 1978 ، أعد شفيق تقريراً رفعه بصفة شخصية للحكومة تحت عنوان”ضرورة العناية باللغة الأمازيغية وضرورة تدريسها للمغاربة كافة”، حدد فيه الأسباب الموضوعية القاضية بوجوب تدريس اللغة الأمازيغية، واقترح لهذا الغرض الخطة الإجرائية التي ستنبني عليها عملية التدريس، تبدأ في مرحلة أولى بإحداث معهد وإحداث كراسي في كليات الآداب، ثم إدراج الأمازيغية في التعليم الثانوي، كمرحلة ثانية، والتعليم الابتدائي كمرحلة ثالثة.
كان لولوج محمد شفيق أكاديمية المملكة المغربية أثر كبير في مساره، كان ذلك سنة 1980 وأول ما قام به هو إلقاء عرض حول اللغة والثقافة الأمازيغية، وكان يدافع أيما دفاع عن إعطاء الأهمية للأمازيغية والأمازيغ الذين قال إنهم حاربوا الاستعمار الفرنسي وقبلها حاربوا الأمويين، لكنه لقي معارضة شديدة آنذاك من أعضاء الأكاديمية، وهو ما لم يجعله يتراجع عن أفكاره أبداً.

إصرار شفيق لم يقف عند التطرق للأمازيغية، بل اتجه نحو التأليف حولها، وأصدر كتاب“ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين” سنة 1980 ويعتبر أول كتاب بخصوص الأمازيغية في مساره، ويعد مرجعاً مهماً بالنسبة لخطاب الحركة الأمازيغية اليوم بالمغرب ودول شمال إفريقيا، رغم أنه واجه انتقادات من أعضاء الأكاديمية، لكن كان يقول لهم: “لا تهمني المشاكل السياسية بل تهمني الناحية العلمية”.
لم يتوقف شفيق طيلة حياته عن شق طريق للأمازيغية، ويعد أكبر عمل قام به في حياته هو المعجم العربي الأمازيغي، الذي أمضى 27 عاماً في تأليفه إلى أن ضَعُف بصره بسبب هذا العمل الذي يتطلب معدل 4 ساعات في اليوم على مدى قرابة خمسة عقود، وهي أول عملية استقراء للغة الأمازيغية من مختلف لهجاتها في شمال إفريقيا والصحراء، ونجح في إصداره في 3 مجلدات ابتداءً من سنة 1990 ، ولا يزال لحد الساعة المرجع المهم في اللسانيات الأمازيغية.
يرى شفيق أن وضعية الأمازيغية اليوم متدهورة جداً، بل ربما كانت في السابق أحسن من اليوم، وهو الذي كان يدافع منذ عنفوان شبابه على الافتخار بالهوية الوطنية وبعدها الأمازيغي بنظرة عصرية لا تقليدية، وكان يقول دائماً: “الذي لا يعرف العربية لا يمكنه معرفة المغرب جيداً، نفس الشيء بالنسبة للأمازيغية”.
يعلم شفيق جيداً أن الأمازيغية لغة قائمة الذات، فهو قعد لها معجماً جمع فيه جميع المعاني والكلمات المشتقة ومعانيها حسب جميع المناطق الأمازيغية، إذ يعتبر أن اعتمادها على الاشتقاق والتركيب خصوصية عجيبة ساهمت إلى جانب عوامل أخرى في صمودها أمام عدد من الموجات والتحديات.

يقول محمد شفيق في دراسة نشرت سنة 1988 منشورات أعمال الدورة الثالثة للجامعة الصيفية عن منشورات عكاظ، إن للأمازيغية عبرقيتها وخصوصيتها التي تتمثل في أنها لغة قائمة بذاتها، ولها أساليبها في وضع اللفظ وصرفه وتركيبه، تتبادل مع اللغات الأخرى أخذاً وعطاءً في استقلالية تامة.
ويدحض شفيق مقولة أن الأمازيغية عبارة عن لهجة، ويؤكد في نفس الدراسة أن الأمازيغية لسان متكامل العناصر، وهي لسان له لهجات إقليمية أو جهوية أو محلية، كما أن للإيطالية أو الإسبانية أو الإنجليزية لهجات، أي لغات متداولة بين الناس في حياتهم العادية، يتصرفون فيها بقليل أو كثير من الفوضوية والعشوائية إلى أن يجعلوها تتسم بنوع من التردي في تطبيق قواعد اللسان الأب، فونولوجياً وصرفيا وتركيبيا ومعجمياً.

شفيق
وحزب الاستقلال والحركة الشعبية

لم ينتمي محمد شفيق لأي حزب سياسي طيلة مساره الحافل، لكنه كان متعاطفاً مع حزب الاستقلال إبان الاستعمار، شأنه في ذلك العديد من أقرانه، وكان يساهم مع الحزب حين كان أستاذاً بمدينة فاس ب 10آلاف فرنك، لكن إلى حدود 30 نونبر 1955 حين عاد الملك الراحل محمد الخامس، أخبر آنذاك الهادي لعلج المسؤول عن الحزب بفاس بأن مساهمته ستتوقف، وقال له: “حزب الاستقلال كان برنامجه هو الاستقلال، اليوم حصلنا على الاستقلال ما هو برنامجكم الجديد”، لكن لعلج لم يقبل تبريره هذا.
لم يبدي شفيق اهتماماً للانضمام إلى حزب الحركة الشعبية، الذي أسسه المحجوبي أحرضان، رغم أن كان يتبنى مطالب واضحة بخصوص الأمازيغية، كما أنه لم ينخرط ضمن الأحزاب المحسوبة على الصف اليساري، هذه الحيادية الحزبية ومؤهلاته في مجال البيداغوجيا أهلته ليكون محط اهتمام لدى الدولة طيلة مساره، وكان تثق جيداً فيه من أجل تحمل المسؤوليات الرسمية.

ناضل شفيق بكل ما أوتي من ملكات عقلية وفكرية وقناعات راسخة سمتها الأساسية الوضوح، إلى جانب آخرين من أجل أن تحضى الأمازيغية بمكانة جيدة في بلدها، وكان له الفضل في تحرير“البيان الأمازيغي” سنة 2000 ، وهي الوثيقة التي حملت توقيع 229 شخصية أمازيغية وازنة، وقعوا على مطالب من بينها فتح حوار وطني حول الأمازيغية، والاعتراف الدستوري بالأمازيغية كلغة رسمية ووطنية، ورصد برنامجا خاص بتنمية المناطق الأمازيغية، والتدريس الإجباري، بقوة القانون، للأمازيغية وإنشاء معاهد لمعيرتها وتهيئتها .
تكللت جهود شفيق وعدد من المفكرين والمناضلين الآخرين بنتائج إيجابية، حيث تم تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وعين عميداً للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يوم 17 أكتوبر 2001 ، وأصبح أول عميد له إلى غاية سنة 2003 ، حيث خلفه أحمد بوكوس على رأس المعهد إلى حدود اليوم.

هي اليوم أول مؤسسة رسمية تعنى بالأمازيغية في المغرب، كان لها الفضل منذ عقد من الزمن في رد الاعتبار للثقافة الأمازيغية، لغة وكتابة وثقافة ومسرحاً وشعراً، هي اليوم تعد من أهم المعاهد الأكاديمية المتخصصة في الأمازيغية في شمال إفريقيا، ولها علاقات جيدة مع معاهد علمية من الخارج.
رغم كل ما عاشته مؤسسة الإيركام من تداعيات قبل سنوات، وانسحاب أعضاء كثر منها، وتوجيه انتقادات كثيرة لدورها خصوصاً بعد دستور 2011 ، إذ أصبح الأمر الواقع يفرض إعادة النظر في صلاحياتها وأدوراها، إذ رغم ما نبهت إليه خلال السنوات الماضية من تراجعات في مجال تدريس الأمازيغية، لم يلتفت لها، وأصبح اليوم الكل ينظر القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية لانطلاقة جديدة للأمازيغية في المغرب.

شفيق
رجل البيداغوجيا

يصف أحمد عصيد، الناشط الأمازيغي المعروف، محمد شفيق بكونه“رجل تربية وعالم بيداغوجيا”، لكن الكثير يعرفونه فقط في مجال الأمازيغية، والنزر القليل يعرف أن شفيق من أكبر علماء اللغة العربية، إذ يتقنها إتقاناً إلى جانب اللغة الفرنسية، حتى قال عنه الملك الراحل الحسن الثاني :
Mohamed chafik est le seul vrai bilingue que je connais .
ما يثير اهتمام عصيد في شخصية شفيق أنه بقي طول حياته محتفظاً بعقلانية صارمة وهو اليوم في عقده التاسع، وهو اليوم يفكر لا بعاطفية أو وجدانية، وهي الصفات التي غالباً ما تطبع المتقدمين في السن، ويلفت عصيد إلى أن جوهر محاضرات الرجل في أكاديمية المملكة المغربية كان هو المناداة بالعقلالية، لأنه كان يعي تماماً أن المجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تنبذ العقل والعلم وتُعمل أكثر العواطف والأهواء.
هو الأب الروحي للحركة الأمازيغية المغربية: أول من كتب عن الأمازيغية، وأول من ناضل عنها بداية من سنة 1958 بطريقة فريدة وعجيبة، يقول عصيد إن شفيق كان يبحث في دليل الهواتف عن أسماء تبدو له أمازيغية، ويختار 200 اسم ويشتري أظرفة ويراسل أصحابها بالبريد برسائل مرفوق بحروف تفينياغ الأمازيغية، لأنه كان يعي جيداً أن الأمازيغ في ظل الدولة المركزية آنذاك ذات التوجه العروبي بدأوا ينسلخون عن ذاتهم وثقافهم. فكرة أتت أكلها جيداً، حسب عصيد، لأن المعركة الأساسية حينها وفق منظور شفيق هي النضال من أجل توعية الأمازيغ أنهم أمازيغ، وليس النضال ضد من يرفضون الأمازيغية.

مطالب
بخصوص الأمازيغية

يرى عصيد أن البيان الأمازيغي الذي حرره محمد شفيق في مارس 2000 خلف زلزالاً في الحياة السياسية المغربية، هو بيان جمع مئات الأطر الأمازيغية في بوزنيقة ووقعوا على بيان يطالب الدولة بالاهتمام بالأمازيغية، ولعب حسن أوريد الناطق الرسمي آنذاك باسم القصر دور الوسيط في إيصال البيان إلى القصر الملكي، ونشأ عن ذلك تأسيس المعهد الملكي اللثقافة الأمازيغية، أول مؤسسة تعنى بالأمازيغية في بالمغرب.

ومن الأمور الذي يحكيها لنا عصيد عن حيثيات تعيين شفيق كعميد للمعهد الملكي، أنه اشترط على الملك محمد السادس شرطين، رغم أنه جرت العادة ألا يشترط من يتم تعيينه من طرف الملك، لكن شفيق طلب ألا يتلقى أي أجر مقابل المنصب الجديد في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كما اشترط ألا يتجاوز أكثر من عامين في المعهد، نظراً لكبر سنه.
خلال مدة عامين، كان من المفترض أن يتلقى شفيق أجراً شهرياً يصل ل 7 ملايين سنتيماً، لكنه لم يرد أن يقال عنه إنه ناضل من أجل المال أو المنصب، لكن من غريب الصدف أن شفيق نال، بعد ذلك، الجائزة الهولندية الرفيعة للأمير كلاوز 11 ) دجنبر ( 2002 التي تمنح للذين ناضلوا من أجل قضايا عادلة في العالم ككل، وكان مقدار تلك الجائزة)مائة ألف أورو(هي القيمة التي كان من المفترض أن يتلقاها خلال تلك المدة التي قضاها كعميد للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية .
لم يكن شفيق داعياً للأمازيغية بنظرة منغلقة، بقدر ما كان يعي جيداً أن للذات الأمازيغية تفردها الذي يمكنها من أن تعطي للثقافات الأخرى الشيء الكثير، ويشبهه عصيد بفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر الذين كانوا يركزون على مفهوم الانطلاق من الذات نحو الآخرين من أجل الأخذ والعطاء، هو تبادل بنزعة إنسانية بعيداً عن الانغلاق.

رجل
المواقف والمحطات المهمة

تقول مريم الدمناتي، المناضلة الأمازيغية إن شفيق يعتبر بالنسبة لها مفكراً وأكاديمياً متميزاً، وشخصية بارزة تحضى باحترام واسع وسط الحركة الأمازيغية في المغرب، متواضع ولا يحب الظهور كثيراً ويقود معركة مستمرة بالفكر الوافر والإنتاج الغزير، وتعتبر الدمناتي، عضوة المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات، أن كتابه“ لمحة عن 33 قرناً من تاريخ الأمازيغ” ، الصادر في 1989 من الكتب المفضلة للكثيرين، لكونه يعيد تاريخ الأمازيغ بفكر متحرر ونظرة ملؤها الكرامة والحزم.
تصفه الدمناتي بكونه“رجل المواقف” ، إذ كتب، بداية اعتلاء الملك محمد السادس العرش، وثيقة تاريخية تحت عنوان“بيان من أجل   الاعتراف بالأمازيغية في المغرب”، شرح فيها بشكل واضح المطالب الأساسية للحركة الأمازيغية، هذه الوثيقة وقعت آنذاك من طرف أكثر من مليون مغربي، وأشعلت حركية كبيرة وتطوراً سريعاً ونوعياً في الخطاب الأمازيغي بالمغرب، وقد تكونت لجنة وثيقة البيان من أجل شرحها وتعميمها آنذاك في جميع مناطق المغرب، وبعد ذلك قاد محمد شفيق بصرامة المفاوضات من أجل تحرير الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.

وفي سنة 2011 ، حررت وثيقة جديدة من أجل الضغط من جديد من أجل تحقيق المطلب الرئيسي للحركة الأمازيغية المتمثل في الترسيم، كانت الوثيقة الجديدة تحت عنوان: “نداء تيموزغا من أجل الديمقراطية”، وقعت من طرف عدد من الشخصيات الأمازيغية، منهم محمد شفيق، أحمد عصيد، حند الشامي، زايد أوشنا، ومريم الدمناتي، هذا الوثيقة حسب الدمناتي أثارت حفيظة “الداعيين للتعريب نظراً لمحتواها الذي كان جريئاً أكثر من ذي قبل.
تعتبر الدمناتي أن شفيق يتمتع بحكمة كبيرة، وذو حس بيداغوجي وثقافة أمازيغية واسعة، جعلت منه مناضلاً مميزاً واستثنائياً من أجل القضية الأمازيغية، وقد شاركته الدمناتي وآخرون في محطات مهمة، منها البيان الأمازيغيي سنة 2000 ، والمشاركة في مجلس إدارة الإركام سنة 2002 ، اختيار الحرف تيفيناغ الأمازيغي سنة 2003 ، إدماج الأمازيغية في المدرسة سنة 2003 ، إلى ترسيم الأمازيغية سنة 2011 .

لا يكف المناضلون الأمازيغ عن زيارة محمد شفيق في شقته بحي أكدال بشكل مستمر، إذ يعتبر أهم مناضل في الحركة لحد الساعة، والذي عايش ولادتها وتطورها، ويحدث أن يزوره أيضاً مناضلون أمازيغ من الجزائر وليبيا وتونس من أجل النقاش معه حول الوضعية الحالية للأمازيغية، وبهدف الاستماع إليه خاصة فيما يخص التاريخ والثقافة الأمازيغية.

شفيق
رجل الإجماع والمواقف

في كتابه“محمد شفيق.. رجل الإجماع” ، يلامس الحسين بويعقوبي مسار شفيق منذ طفولته ومنعرجات حياته التي لم يعشها كثيرون في مغرب اليوم مثلها، ولم تكن بداياته سهلة بقدر ما كانت مليئة بالتحديات، كان في ريعان شبابه وعايش بزور“القومية العربية في المغرب”، التي يعتبرها هنري لورانس، المستشرق البريطاني، نتيجة لدعم بريطاني العظمى للعرب ضد الأمبراطورية العثمانية.يورد البويعقوبي أن الوطنيين استغلوا حملة“القومية العروبية”في عز الاستعمار وبعد الاستقلال لمواجهة كل من ينادي من أجل الأمازيغية، وتعزز ذلك حين صدر ما عرف ب” ظهير” 1930 للأعراف الأمازيغية، أو “الظهير البربري” .. حينها كان شفيق على وعي كبير بالدور الذي يلعبه الجانب الثقافي في استقرار البلاد وأهمية احترام التعدد اللسني، وواجه آنذاك حملة“القومية العربية”، وذهب إلى وصفها ب”الشركي الأيديولوجي والشوفينية العنصرية التي أدت إلى ميلاد معاق للبوليساريو والذي مازال المغرب يعاني منه لحد الساعة.”
لم تكن معارضته ل”القومية العروبية” تعني العداء للغة العربية، بل كان ملماً بها بشكل كبير، ودرسها بشكل مفصل ودقيق، ودعا أكثر من مرة المفكرين واللسانيين العرب إلى تطوير اللغة وتجاوز بعض معيقاتها مثل“الشكل”، حيث يعتبرها عائقاً كبيراً أمام تطورها.. وكان يعتبر الدراجة المغربية التي انبثقت من العربية الكلاسيكية والأمازيغية ظاهرة لسنية خصص لها دراسة خاصة. يجلس اليوم شفيق في شقته بإقامة هادئة على مقربة من ثانوية ديكارت بالرباط، لا يكل من استقبال أصدقائه، سواء الجيل السابق أو الحالي، والابتسامة التي تلبس الحكمة لا تفارق محياه، ورغم علة جسده الواهن، يصارع من أجل أن يستمر في الحديث إلى ضيوفه ساعات، حتى ينال منه التعب، ويستسمح بأدب رفيع.

شفيق هو رجل إجماع، ولم يكن رجل ثقافة فقط بقدر ما كان أول من خط خطاب الهوية الأمازيغية، ورجل التوازنات والمفاوضات والمواقف الصارمة، وكثيراً ما كان يواجه مسؤولين كبار في الدولة يعبرون عن معارضته للأمازيغية، ويحكي البويعقوبي أنه قرر سنة 2001 الرد على عبد الحق المريني، الذي نشر في جريدة“الشرق الأوسط ”حول الأمازيغية.

يطل اليوم شفيق على العقد العاشر من عمره، ويقترب من مائة عام من النضال اليومي من أجل مغرب يهتم بأمازيغية وثقافته وتاريخه، من أجل مغارب مغاربي بالأولية، من أجل أن تحضى الأمازيغية بمكانة تستحقها في بلدها الأم، من أجل أن ثقافة مغربية تنطلق من الذات نحو الآخر، بثقة وبغير تنكر لها.

بقلم : يوسف لخضر

نُشر المقال في أول مرة على مجلة.medias24.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى