بالعربيةسياسة

هل تصلح تعديلات دستورية ما أفسدته الإيديولوجيات الرسمية؟

ڨاسمي فؤاد - مدوّن
ڨاسمي فؤاد – مدوّن

منذ الاستقلال سنة 1962، سيطرت على دواليب “المنظومة[1]” الحاكمة في “الدولة الجزائريّة” مجموعة أفكار، يمكن اعتبارها “إيديولوجية رسميّة” لم تخرجْ يوما عن إطار مهادنة العواطف الجيّاشة للـ”جماهير”، تجاه الدّين والانتماء الاصطناعي واللغة المرتبطة بهما. هذه العواطف، التي استثمرت فيها “المنظومة” الحاكمة في دزاير، وأحسنت التّحكمَّ فيها للإبقاء على الوعي الجمعيّ للشعب الدزيريّ تحت سيطرة مختلف مؤسساتها، تحت مسمّى : الثوابت. ثوابتُ تتداخل اليوم، وتصطدم بقوة، مع رغبة “الدولة” في الفرار “إلى نفسها” من الموت القادم من الشرق.

رغم أنّه من المفروض ألّا يكون للدولة، التي هي عبارة عن “مجموعة من المؤسسّات”، شكل ولا انتماء إيديولوجيّ ولا عرقي ولا ديني، لأنّها تختصّ بتسيير “مصالح” البلاد، والدولة والشّعب. إلّا أنّ الدّين الإسلاميّ، والانتماء الاصطناعيّ للعروبة، واللغة العربيّة؛ تبقى إلى اليوم “عوامل متحكّمة” في كلّ سلوكياتها، التي غالبا ما تراعي “مشاعر الشّعب” وتأبى تجاوز الخطوط الحمراء التي يرسمها، بعد أن قضت أكثر من نصف قرنٍ في برمجته على هذه “الثوابت”، من أجل تحكّم أفضل فيه.

ليعود “جهاز التّحكم” اليوم إلى يدٍ “جمهور” مبرمجٍ على “ثوابت” محدّدة، بنسخة “فاسدة” ونظرة “عاطفيّة” تمنع البلاد من المضيّ قدما، بفعل “المعارك” الطاحنة المثارة هنا وهناك في كلّ أرجاء البلاد بين مختلف “الأجهزة الإيديولوجيّة” التابعة أو المعارضة للدولة حول موضوع الثوابت، وما ينجرّ عنها من محاولات لتعطيل مسيرة “التخلّص” من الثوابت المزيّفة، من أجل إفساح مجال للأجيال القادمة من أجل بناء “دولة” حقيقة.

اليوم، وأمام التحدّيات الأمنيّة والسياسية التي تواجه الدولة الجزائريّة وتهدّد وجودها، نتيجة الظروف السائدة في المجال “العربيّ” المنتميّة إليه، فكريّا وثقافيّا وسياسيّا، تتجه أخيرا، إلى الخضوع لمطالب التيّار الأمازيغي، وتطبيق مقترحات “الجزأرة” و”العلمنة” التي طالما لاقت معارضة شديدة وقمعا، من قبل الدولة نفسها. يظهر ذلك جليّا، وبصفة رسميّة، في التعديلات الدستوريّة الأخيرة، والقرارات الصادرة، والتعليمات الموجهة من قبل مختلف دوائر السلطة، وفي الخطاب الرّسميّ الذي تحوّل فجأة، وحتّى في السياسة الخارجيّة التي أصبحت “جزائريّة”، بعد أن كانت لعقود “عربيّة”.

لكن، رغم أنّ “الإرادة السياسية” في الظّاهر موجودة، من أجل إعادة خلق “جزائر جزائريّة”، ورغم أنّ هذا الهدف، قد يكون حلّا مؤقّتا، ومرحلة انتقاليّة، للفرار، من المأزق الذي تجد فيه الدولة الجزائريّة اليوم نفسها، نحو مستقبل تحاول “السلطة” رسم معالمه على عجالة، تحت ضغوط داخليّة وخارجيّة خانقة. إلّا أنّ إحدى أكبر معوّقات السير نحوه، هي الشّعب في حدّ ذاته. هذا الشّعب الذي يتعرّض منذ أكثر من نصف قرن لعمليّات “غسيل دماغ” جعلته “عروبيّا” يكره كلّ ما له علاقة بالـ”جزائريّة”، “إسلاميّا” يرفض أيّ شكل “مدنيّ” للدولة، ويطالب علنا، وجهرا، بأعلى صوته عبر أبواق مسكوت عنها، حتّى اليوم، بجعل الجزائر “إمارة” تابعة للدّولة الإسلامية.

الثوابت البومدينية، وثابت جبهة الإنقاذ؛

من المعلوم للجميع، أنّ هذه الأفكار والقناعات، “العروبة، والعربية، والإسلام” لم تكن وليدة النظام البومديني، ولكنّها كانت نتاج “منظومة دولة الثوّار”؛ إذ اتّخذت أطرافٌ – سيطرت على الحركة الوطنية قبل الثورة، وسيطرت أفكارها فيما بعد على دولة الثوار – منها طرحا بديلا، مناوئا، ومعاديا للوجود العسكري والسياسي والثقافي واللغوي الفرنسيّ، ولخّصت رفض الوجود الفرنسيّ في “الانتماء العربيّ” و”اللغة العربيّة” و”الدين الإسلامي” كأضداد نوعيّة لـ”فرنسا” ككيان استعماريّ، وهذا ما تلخّص في “بيان أوّل نوفمبر” الّذي أصبح هو الآخر : نصّا “ثابتا” صالحا لكلّ زمان ومكان، انبنت عليه “دولة الثوّار[2]

إبان حكم الديكتاتور هواري بومدين (1965-1978) عرفت إيديولوجيّة القومية العربيّة الشموليّة عصرها الذهبي في “دزاير”، بإيعاز وتخطيط منه. وفاءً لهذه الإيديولوجيّة التي فرضها بقوّة “الدولة”، استحدثَ بومدين ترسانة “مثقّفين[3]” استعملها إلى جانب، بقيّة أجهزة الدولة، في هذه العمليّة، وأنتج بدعم إيديولوجيّ مشرقيّ هويّة اصطناعيّة فُرضت على الجميع في دزاير، بقوّة “القمع”، والعصا، بل إنّه تمادى من أجل هدفه هذا إلى العبث بديموغرافيّة المجتمعات الدزيرية المتباينة، مخلّفا ما تعانيه أغلب الأوساط شبه الحضريّة و”الحضريّة” اليوم، ومخلّفا أيضا كثيرا من النماذج الخطيرة التي نتجت عن استجلاب كيانات بشريّة في شكل هجرات جماعيّة نحو مناطق معيّنة، مستهدفا تغييرات ثقافيّة ولغويّة واجتماعيّة وعرقيّة، أنتجت أمثلة تهدد اليوم الأمن القوميّ لدزاير، كـ: غرداية.

خلال هذه الفترة، ترسّبت في دواليب “المنظومة” الحاكمة، مجموعة من الأفكار والقناعات الرّاسخة، على أيدي مثقّفي بومدين، الذين عملوا على نشرها وتكريسها وحمايتها، بل وقمع كلّ طرح مختلف، بدعم رسميّ بوليسي من النظام.

لتواصل هذه “الترسانة” من مثقّفي النظام، مسيرة غسل الأدمغة حتّى بعد موت بومدين، وتتحوّل أفكار القوميّة العربيّة، الّتي استعملت الإسلام فقط كحجّة داعمة لها، إلى “توجّه رسميّ” للدّولة. على مدار عقود طويلة، وبعد صرف مليارات الدّولارات على عمليّة تنصيب (installation) هذه الأفكار، أصبح من “البديهيّ” و”المعلوم من الوطنيّة بالضرورة” : الانتماء العربيّ، ثمّ اللغة العربيّة، ثمّ الإسلام على التّرتيب، وأصبح كلّ طرح مخالف، من قبيل الهوية أو الثقافة أو اللغة الأمازيغية “شيطانا يجب وأده بكلّ الطرق” وترسّخ هذا لدى العام والخاصّ في أوساط “الشعب الجزائري”.

ومع ظهور ما سميّ بـ”الصحوة الإسلاميّة” وبروز حركات إسلاميّة في دزاير، وانتقال الإيديولوجيّة الإسلاميّة السياسيّة بسرعة الضوء؛ من مرحلة “الفكرة” إلى مرحلة “النزعة”، إلى مرحلة “الإيديولوجيا”، إلى “مشروع الدولة”. ولتوافق الطّرح “الإسلاميّ” مع ما أسس له الطّرح “القوميّ العربيّ” باعتبارهما متكاملين لا ينفصلان[4]، حتّى وإنْ اختلفا في مرحلة متأخرة؛ تآمرت الظروف لخلق “قطب إسلامويّ” ضخم في دزاير، سمّي بـ”الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ –FIS Front Islamique de Salut” التي قادها الراديكاليّان الإسلاميّان المعروفان “عباس مدني” و”علي بلحاج”، عبر مشروع “مجتمعيّ” كان هدفه الأوّل والأخير، خلق “مجتمع شرعيّ” يلتزم بالضوابط الدّينية، ويحرّم الاختلاف، ويمنع أيّ مظهر من مظاهر “الحريّة”.

وبالفعل، وجدت جبهة الإنقاذ أرضيّة ممهّدة في شعب يؤمن حتّى النّخاع بالعروبة ويقدّس اللغة العربيّة ويمجّد الإسلام، وما كان عليها إلّا أن تنقل الإسلام من المرتبة الثالثة إلى المرتبة الأولى في ترتيب “الثوابت”. وهو ما كان، لتخلق كتلة “ملتهبة” متحمّسة من الشّباب والشّيب متكوّنة من “أغلبيّة” كبرى من أبناء الشعب الجزائري، الذين اصطفّوا مع الـ FIS في مواجهة “النظام” القوميّ العربيّ “الكافر”، وخيّروه بين تسليمهم الحكم، أو “الحرب”.

وفعلا، بعد أن نجح الـ FIS في تغيير ترتيب “ثوابت” الشّعب، وجعل الإسلام في المرتبة الأولى، وواصلت “الدولة” إصرارها على وضعه في المرتبة الثالثة، جعلها ذلك: دولة “كافرة” طاغيّة تمسّكت بالسلطة ورفضت تسليمها للـ”مؤمنين” الرّاغبين في إقامة “دولة شرعيّة” .. واندلعت الحرب الأهليّة.

خلال “العشرية السوداء”، ولأكثر من عقد من الزّمن، قتّل “الجزائريّون” بعضهم البعض، من أجل السلطة، ومن أجل الثّوابت؛ وراح مئات الآلاف من الأبرياء فداءً لذلك. تغلّبت “السلطة” في النّهاية. لكنّها، وباعتراف الجنرال “خالد نزار” ؛ “نجحت في هزم الإسلاميين لكنّها لم تنجح في هزم “الإسلامويّة”، الإسلامويّة التي مهّدت إيديولوجيّة الدّولة الرّسمية، القوميّة العربيّة، لظهورها واستفحالها.

هذا ما جنينا من ثوابت الإيديولوجية الرسميّة…

“الدولة” الّتي خلقت في البدء “الثوابت” الثلاثة، وأفسحت المجال للـ FIS للـ”عبث” بترتيبها، وجدت نفسها أمام معضلة “إجراءات” غمرت الجميع فيها، وألهتها عن الإجراء الوحيد الحقيقيّ الذي كان من شأنه تغيير حال البلاد نحو الأحسن. بين “المصالحة الوطنيّة” وبرنامج “التنميّة” البوتفليقيّ، واصلت الدّولة سيرها نحو “وهم” عاشه الجميع دون استثناء، متناسيّة لبّ الأزمة: الإيديولجيّة الرّسمية ووليدتها “الإسلاموّية”.

وبحلول “عصر المعلومة” اللحظية وانتشار القنوات الفضائيّة، وظهور الصراع العربيّ-الفارسيّ (السنّي-الشّيعي) برزت على السّاحة “الجزائريّة” قنوات فضائيّة أجنبيّة، ساهمت في دعم “التيّار الإسلاميّ” بمدد إيديولوجيّ، أمام “صمت الدولة” وعجزها عن مجابهته، أو لنقل تجاهلها له. لتسيطر النزعة الإسلاميّة السلفيّة، القائلة بترتيب الإسلام أوّلا، الرّافضة لكلّ طرح آخر، مدنيّ أو هويّاتيّ غير طرحها.

لتتحوّل العائلات الجزائريّة الّتي صوّتت بأغلبيّة “كبرى” على “الإسلام”، أقصد الـ FIS، إلى مداجن لكائنات “إسلاميّة” شكلانيّة[5] عنيفة، ربّتها الأزمة؛ فولّدت فيها الصدمة الناتجة عنها قدرة ونزعة غريبة للعنف، وشكّلت أفكارها قنوات الإسلام العربيّ السنّي السلفيّ، الأجنبيّة، الرّافضة المحرّمة للوطنيّة؛ حتى قُتِل فيها كلّ حس بالانتماء للوطن. وقنّنت سلوكها القنوات العربيّة الإسلاميّة الجزائريّة الإيديوقراطيّة [6] Idiocracy، فتحوّلت إلى كائنات ذات مستوى ذكاء جماعي متدنّ جدّا، وميولات استهلاكيّة رديئة.

كلّ هذا نتيجة “الثوابت” التي قادت شعبا بأكمله، إلى حرب أهليّة، وأنتجت لنا الجيل الذي يتذمّر منه الجميع، رغم أنّهم، المتذمّرون أنفسهم، من أنتجه، بكلّ “انحرافاته” الشكليّة والجوهريّة سواء بالمشاركة أو السكوت.

لتجد اليوم “الدولة” نفسها أمام موقف جدّ حرج، وسط الضغط الممارس عليها من الخارج، والخطر الذي يتهدد وجودها من الشّرق، وعقبة “الثوابت” العاليّة الصعبة، التي كرّستها وقدّستها، وتحاول أن تتخطّاها، إلى “ثوابت” جديدة، تؤسّس لكيان جزائريّ جزائريّ، يمكنُه مقاومة المدّ الإرهابيّ من الشّرق، والمحافظة على وجود “المنظومة” التي خلقتها دولة الثوّار.

تعديلات دستوريّة، تخالف “ثوابت” شعب عنيف ترسّخ في وعيه الجمعيّ أنّ “المخالف” خائن، لن تمرّ. وتعليمات وأوامر وتغييرات في السياسة الداخليّة والخارجيّة، قد تؤدّي في حال تخطّيها للخط الأحمر للشعب، المرسوم بالثوابت التي كرّستها “المنظومة” سيؤدّي مرّة أخرى إلى حرب أهليّة جديدة، تمحي “المنظومة” نفسها.

ما كتب في الظّلام، لا يمحى في النّور، وزمن فرض الإيديولوجيّات باستعمال العصا والحذاء العسكريّ والديكتاتوريّة قد ولّى، فهل يمكن أن تصلح التعديلات الدستوريّة ما أفسدته الإيديولوجيّات “الرّسمية”؟ .. أتساءل!

هوامش وملاحظات:

[1] المنظومة: مجموع الأفكار والمؤسسات والهياكل التي تسوس الوضع في البلاد، التي تحكمها دولة الثوار.

[2] الدولة التي أنشأها/أسسها أفراد بعد “ثورة”. لمشاهدة فيديو يشرح مفهوم : دولة الثوار (إضغط هنا)

[3] لمطالعة مقال : مثقّفوا السلطة ورهاب الأمازيغية (إضغط هنا)

[4] لمطالعة مقال : تحالف داعش الجزائرية يرفض ترسيم اللغة الأمازيغية! (إضغط هنا)

[5] شكلانيّة Formalisme : يتميّز الشّاب الجزائريّ العاديّ، بحبّه لإبراز مظاهر الدّين، حتّى وإن كان بعيدا كلّ البعد عنه، كلّ ما يهمّه هو : الشكل.

[6] Idiocracy/الإيديوقراطيّة: مصطلح أساسه كلمة Idiot بمعنى: الأبله، يعني حكم البلاهة، أو حكم البلهاء؛ مقتبس من عنوان فيلم أمريكي، حول مكتبيّ في الجيش ذو مستوى ذكاء متدنّ يخضع للتجميد كتجربة علميّة سريّة، فينام عقودا، ليعود ويستيقظ في بلاد يعتبر فيها هو “الأذكى”. (إضغط هنا لمعرفة المزيد حول الفيلم)

باسم عابدي

مهتم بالتاريخ بصفة عامة، أطلقت "المكتبة الرقمية الأمازيغية" سنة 2013، وهي مخصصة لتاريخ وثقافة الأمازيغ. وساهمت سنة 2015 في تأسيس "البوابة الثقافية الشاوية"، المعروفة بـ إينوميدن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى