الافتتاحية

هل توقظ تصريحات ماكرون مرضى الهوية عندنا ؟

تشهد العلاقات الجزائر الفرنسية توترا كبيرا على خلفية تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة و التي انتقد فيها النظام الجزائري و شكّك في وجود أمة جزائرية قبل الإحتلال الفرنسي . و نقلت صحيفة لوموند الفرنسية تصريحات قالت أن ماكرون أدلى بها أثناء استقباله أحفاد عدد من الشخصيات التي كان لها دور في حرب إستقلال الجزائر اتّهم فيها النظام الجزائري باستغلال ملف الذاكرة وطعن من خلالها في وجود أمة جزائرية قبل الإستعمار الفرنسي و تساءل مستنكرا “هل كانت هناك امة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟” .
و كان ردّ السلطات الجزائرية بإستدعاء السفير الجزائري بباريس و منع الطائرات العسكرية الفرنسية المشاركة في عملية “برخان” شمال مالي من التحليق في المجال الجوّي الجزائري .
أما على المستوى الإعلامي فقد تجندت بلاطوهات التلفزيونات الجزائرية و أعمدة الجرائد للرد على تصريحات ماكرون المشكّكة في وجود أمة جزائرية قبل الإستعمار الفرنسي . و أفردت هذه المنصّات الإعلامية مساحات واسعة للمختصين للحديث عن أمجاد نوميديا باعتبارها أقدم كيان سياسي يظهر في شمال إفريقيا و التي تُعدُّ الجزائر وريثته الشرعية . كما أسهب هؤلاء المؤرخون في ذكر مناقب ماسينيسا و عبارته الشهيرة ” إفريقيا للأفارقة ” التي هي أقدم تمظهر للقومية أمازيغية في التاريخ .
كما ذكّر آخرون الرئيس الفرنسي ماكرون بالملك النوميدي يوغرطا الذي وحّد الأمازيغ لمحاربة الإمبراطورية الرومانية أكبر قوة عسكرية آنذاك . و أن يوغرطا قد توفي في سجن “التوليانوم” في روما قبل “فرسنجيتوريكس” (Vercingétorix) الزعيم الغالي (gaulois) الذي وحّد القبائل الغالية ضد روما بنصف قرن من الزمن . فإن كان المؤرخون الفرنسيون يعتبرون فرسجيتوريكس أبا للأمة الفرنسية , فإن الأمّة الجزائرية -التي ينفي وجودها ماكرون- قد سبقت نظيرتها الفرنسية بنصف قرن على الأقل .
في نفس السياق , قام وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بزيارة سجن التوليانوم على هامش لقاء جمعه بنظيره الإيطالي بروما و غرّد قائلا “قطعة من تاريخ الجزائر الممتدة جذوره في قلب روما . آخر مكان سجن و قتل فيه ملك نوميديا يوغرطا ابن سيرتا و حفيد ماسينيسا سنة 104 قبل الميلاد بعد حرب ضروس ضد الرومان دامت 7 سنوات ” . و يمكن أن نفهم بسهولة الرسالة التي أراد تمريرها وزير الخارجية من خلال هذه الزيارة .

و السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه وسط كل هذا الجدل هو : هل يمكننا أن نرى في هذا الإحتفاء بالتاريخ الأمازيغي وعيا سياسيا صادقا بضرورة التصالح مع موروثنا الأمازيغي ؟ و هل أيقنت أخيرا الأوساط العروبية التي تسيطر على المدرسة و الإعلام عندنا أن لا عزة و لا سُؤدد للأمة الجزائرية بدون البُعد الأمازيغي و أن عدائهم له هو نفي لأصالة هذه الأمة الجزائرية و تحقير لها ؟ .
للأسف الشديد , لا نعتقد أن هذا الإحتفاء صادق و لا نرى أن هؤلاء العروبيين قد تعلّموا الدرس جيدا . فبعض البلاطوهات التي تحتفي اليوم بملوك نوميديا كانت بالأمس القريب تطعن فيهم و تخوّنهم . فقناة الشروق العروبية مثلا كانت قد شنّت حملة تشويه شعواء ضد شخصية الملك ماسينيسا بمناسبة تنصيب تمثاله في وسط الجزائر العاصمة منذ سنتين .

عندما إكتشف الجزائريون أمازيغتهم بعد أن طردهم المصريون من فردوس العروبة

هذا الموقف المتناقض لوسائل الإعلام الجزائرية يذكِّرنا بواقعة مماثلة حدثت منذ سنوات .عندما إندلعت الأزمة الكروية مع مصر سنة 2009 و صعّد الإعلام المصري هجوماته ضد الجزائريين الى درجة تحقيرهم و التقليل من شأنهم و نعتهم ب”البربر” , لم تجد وسائل الإعلام الجزائرية -و على رأسها جريدة الشروق- آنذاك سوى أن تغرف في الموروث الأمازيغي و تستخرج منه ما تردُّ به على عجرفة الإعلام المصري .
و أتذكّر جيدا مقالاً لمحمد الهادي الحسني أحد جهابذة التيّار العروبي على جريدة الشروق بتاريخ 2 ديسمبر 2009 بعنوان “جهل و منّ و استكثار” (لا يزال موجود على موقع الشروق على هذا الرابط) و هو يردّ على إساءات الإعلاميين المصريين و وصفهم للجزائريين ب”البربر” تحقيرا لهم .
فيقول الهادي الحسني : «إن غرب مصر خاصة منطقة سيوة أمازيغ –أي أحرار- أو “بربر” , كما أن نصف سكان القاهرة –على الأقل- هم بربر لأنهم من أصلاب و ترائب “البربر” الكتاميين الذين فتحوا مصر و ألحقوها بالدولة العبيدية (الفاطمية) تحت القيادة العملية ل”بَرْبَرَيْنِ” جعفر بن فلاح الكتامي برًّا و يعقوب الكتامي بحرًا و بذلك يكون أولئك الجاهلون لم يسبّوا “البربر” في الجزائر و المغرب و تونس و ليبيا فقط , بل سبّوا جزءا من الشعب المصري » .
و يردف الهادي الحسني في ذكر مناقب الأمازيغ قائلا  « إن هؤلاء “البربر” هم من وضعوا أول رواية في تاريخ الرواية الانسانية و هي “الحمار الذهبي” لأبوليوس من مدينة مداوروش الجزائرية و هم الذين وضعوا أول كتاب في فلسفة التاريخ و هو “مدينة الله” للقديس أوغسطين …. و هم الذين وضعوا أول كتاب في جغرافيا الجزيرة العربية و هو ليوبا الثاني ».
و يواصل الهادي الحسني قائلا « إن هؤلاء “البربر” هم الذين رفضت ملكتهم “داهيا” أن تستسلم للفاتحين المسلمين أو تفر منهم و قالت لمن نصحها بذلك : “و كيف أفرّ و أنا ملكة فأقلّد قومي عارا الى آخر الدهر” » (تخيلو الهادي الحسني يفتخر بمقاومة ديهيا للعرب على جريدة الشروق !) . ثم يذكر الهادي الحسني جمعية العلماء المسلمين و يفخر بكون رئيسها “أمازيغيّا”.
و ردّا على قول الإعلاميين المصريين أن الجزائريين لا يتحدّثون سوى بالفرنسية , يكتب الهادي الحسني ” إن الجزائر لم ترد الإنضمام لمنظمة الفرنكوفونية بعد الاستقلال فيما النظام المصري لهث حتى نشف ريقه وراء فرنسا لقبوله في هذه الهيئة و أذل رقبة مصر و أهان شرفها في سبيل ذلك” .
لا يمكن لقرّاء الشروق أن يتصوروا محمد الهادي الحسني و هو يفاخر المصريين بأبوليوس و أوغسطين و يوبا الثاني و محاربة ديهيا للعرب , و لو قرؤوا ذلك اليوم لأتّهموه بأنه “بربريست” و لَرَموهُ بالعمالة لفرنسا و للصهاينة .
و لكنّ هؤلاء الجزائريين الذين إكتشفوا عظمة أجدادهم الأمازيغ أثناء هذه الأزمة الكروية , لم يلبثوا أن تناسوها بعد برهة و إنتكصوا على أعقابهم و عادوا إلى ضلالهم القديم .
و كذلك سوف يفعلون اليوم , عندما يفرغون من الرد على ماكرون , سوف يُعيدون يوغرطا الى مَدفنه في التوليانوم و أمجاد نوميديا الى كتب التاريخ و يعودوا الى عدائهم المُمنهج للأمازيغية و محاولاتهم المحمومة لتقليد اللذين نعتوهم ب”البربر” في الأمس القريب .

يوغرطا حنّاشي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى