مجتمع

أخطار تهدّد الثقافة الشاويّة بالاندثار (الجزء الأوّل)

ڨاسمي فؤاد
ڨاسمي فؤاد

من الصّعب جدّا أن نحدد للثقافة الشّاوية، كجوهر لا كتسمية، مجالا أو نطاقَ بدايةٍ في الزّمن، فالوعاء البشري المحتوي لهذه الثقافة هو واحد من أقدم الكيانات المكوّنة للشمال الإفريقي بمسّماه الماسيلي أو النوميدي أو الشّاوي أو الآمازيغي، في إطار جغرافي متّسع متنوّع، بين بيئة جبلية، وسهليّة، وصحراويّة، وحضريّة (قديمة وحديثة)، حاضن لعدد كبير جدّا من الشّواهد الحضارية بدءا بالثقافة العاترية (مهد الإنسان العاتري) مرورا بمختلف الثقافات/الحضارات المعروفة للعامّ والخاصّ اليوم، والّتي كان من المفروض أن تكرّم شواهدها على اختلاف مراحل وجودها وتجعَل مرجعيّات لاعتزاز الشّاوي بثقافته الألفية، ولكنَّ الواضح أنّ تغييب كلّ ذلك الكمّ من الحضارة والثقافة أمر محسوب أو على الأقلّ مقصود للحدّ من انتماء هذا الكيان البشري الثقافي إلى ذاته، خاصّة مع ما يزخر به ماضيه من زخم وميول للعصيان والتمرّد والتحرّر. كلّ هذا من أجل تحقيق معادلة “الشّعب الآيل إلى الزّوال” التي تسهل على المتحكّمين في خيوط “الثقافة” تشريقه أو تغريبه بكلّ سهولة، فيسهل بذلك التّحكم فيه.

هذه العوامل، باختصار، هي المفاتيح الحاكمة للمشهد الثّقافي الشّاوي، التي أضيف إليها نمط سلوكي سيطر على العقل الشّاوي يتميّز عموما باللامبالاة ونكران الذّات وتدمير الإرث وتحقير الميراث الثقافي، بتلقائية وآلية مبرمَجة بطريقة غريبة جدّا، يمكن أنْ نلخصها في النقاط الآتية، والتي تشكل الأخطار المهددة للوجود الشّاوي والثقافة الشّاوية في عقر بيتها.

نحن شعبٌ لا يكتُب؛ نحن شعبٌ ميت.

إحدى أكبر التّحدّيات التي تواجه الثقافة الشّاوية اليوم، في عصرِ المعلومة، هي “عزوف إيشاويّن عن الكتابة” والتدوين في ثقافتهم الأصلية. في ظلّ تسارع التثاقف حدَّ الاصطدام اللّحظي الّذي يؤدّي بالضرورة إلى سيطرة ثقافة على الأخرى، واندثار ثقافات من على وجه الأرض، خلال فترات قصيرة جدّا، خلافا لما كان عليه الوضع في عصور سابقة.

قد تحتاج “ظاهرة العزوف عن الكتابة” في حدّ ذاتها إلى دراسة اجتماعية-نفسيّة معمّقة لسبر أغوارها وإصلاح ما يمكن إصلاحه في التركيبة المجتمعية الشّاوية التي تعاني “كسلا فكريّا” واضحا، وتدنيّا خطيرا في مستوى الوعيّ عامّةً والوعي بالذّات، الذي هو أرضيّة الوعي، بصفة خاصّة.

وفي ظلّ هذا، فإنّ الثقافة الشّاوية، تقنيّا، ثقافة ميّتة، خاصّة وأنّ المحاولات اليائسة التي (قد) تبرز إلى السطح بين الحين والآخر، لم ولن تستطيع توفير حلّ حقيقي للوضعية التي تعانيها هذه الثّقافة لعوامل كثيرة منها الابتذال، ونقص الابداع، والعجز عن التنبؤ بالمتغيّرات، لعجزٍ تحليلي أصلي في نمط تفكير الكثير من رافعي لواء هذه الثّقافة بحكم المستوى الفكري والمحيط البدويّ/القرويّ الذي يحدّ من رؤى كثير منهم.

اللغة ذاتٌ إذا فقدناها فقدنا أنفسنا…

على صعيد آخر، فإنّ اللغة الشّاوية الآمازيغية، تواجه اليوم تحدّيا حقيقيّا، خاصّة في ظلّ انتشار وسيطرة الصورة النمطية التي ساهمت المنظومة الإعلامية، والتعليمية، والمجتمعية في الترويج لها وتأكيدها والتي مفادها أنّ “النّاطق بالشّاوية بدوي/قروي” (دوّارسيت) في مقابل أنّ “الناطق بالدارجة حضري” (بْلْدِي). وهي صورة ساهم الكثير من النّاطقين بالشّاوية في التّرويج لها، بفعل كمّ احتقار الذّات الهائل الذي حقنت به أجيال متعاقبة، منهم، من المهجَّرين والنّازحين إلى المدن ما جعلهم يعزفون عن تعليم أبنائهم لغتهم الأم، وبالتّالي ولّدو أجيالا ممسوخة بدويّة السّلوك، قرويّة التّفكير، حضريّة المعاش والمظهر. هذه الأجيال التي ولّدت هي الأخرى منظومة اجتماعية جعلت من النّاطق بالشّاوية موضوع كوميديا un objet de comédie  واستثمرت هذا الموضوع في جميع مناحي حياتها وهو ما يظهر جليّا في كثير من الإنتاجات (الفنّية) والمجتمعية كالنكات والقصص والأمثال المستحدثة.

وبسبب غياب بديل وحلّ حقيقي، وأمام ضعف شخصيّة النّاطق بالشّاوية، في مراحل معيّنة من تاريخ المجتمع الشّاوي بعد الاستقلال، وكذلك بسبب المنظومة التي انتهجها النّظام في عهد “بومدين” (على وجه الخصوص) والتي اقتضت؛ من أجل “تعريب” الشّاوي، ترحيل أعداد مهولة من الكيانات المستعرَبة، من مناطق أخرى إلى قلب المدن الشّاوية الناشئة والكولونيالية والقديمة على حدّ سواء، للاستثمار في وجودها كـ”قطب حربٍ” على اللغة الشّاوية الآمازيغية.

أضف إلى ذلك ما تعانيه “هشاويث” اليوم إلى جانب التراجع الرّهيب في عدد النّاطقين بها، مقارنة بالعقدين الماضيين، من حرب إيديولوجية رهيبة، على جبهتين؛ جبهة يقودها المخترقون من أبناء تلك الكيانات للبّ المجتمع الشّاوي، الذين وجدو في أبناء المهجَّرين والنازحين القدامى إلى المدن، حليفا استراتيجّيا لتأدية مهمّتهم الموكلة إليهم (القضاء على اللغة الشاوية الآمازيغية)، وجبهة أخرى تقودها التيّارات الظلامية المخترِقة للمجتمع الشّاوي عبر أبنائه، غير المحصّنين فكريّا ولا ثقافيّا، والّتي كانت ولا تزال أهمّ “إنجازاتها” محاربة التقاليد والعادات والنمط المجتمعي الشّاوي الأصيل، الحامل لـ”هشاويث” اللغة، لصالح أفكار مستوردة من الشّرق ذات صبغة دينية، تضع الشّاوي موقع الاختيار الصّعب بين “الجنة” الموعودة والتّخلّي عن ذاته.

اليوم، وحتّى مع تصاعد إرهاصات الوعي بالذّات الشّاوية لدى عدد معتبر من الشّباب المستعرب والنّاطق بالشّاوية، وانتشار “النشاط” الآمازيغي في منطقة آوراس آمقران بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، وولوج اللغة الشاوية الآمازيغية المدرسة الرسمية (على مضض بسبب المماطلات والحروب غير المعلنة) فإنّ التّحدي المرفوع، أكبر من أن يواجهه الفصيل الأصولي الآمازيغي الشّاوي، لقلّة إنتاجه، ونقص هيكلته، وغياب تكوينه الثقافي والنشاطي، والسيّاسي كذلك، وعجز كثير من منتسبيه عن مواكبة الثقافة الحضرية واختراقها والتّمكن منها، لأسباب كثيرة، منها قرويّة المنشأ والطبائع.

 ڨاسمي فؤاد

باسم عابدي

مهتم بالتاريخ بصفة عامة، أطلقت "المكتبة الرقمية الأمازيغية" سنة 2013، وهي مخصصة لتاريخ وثقافة الأمازيغ. وساهمت سنة 2015 في تأسيس "البوابة الثقافية الشاوية"، المعروفة بـ إينوميدن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى